من رحم «بهانة عماشة « خرج عبدالحليم حافظ الذي حول أحزانه إلى بساتين شجن خلاب . ووصل إلينا عطر هذا الشجن في مساء الثالث والعشرين من يوليو 1953 . ورغم أن الرجل غادرنا في نهاية مارس 1977 إلا أن بساتين الشجن مازالت توزع عطرها مع كل قصة حب تولد أو تتجمد ذكرياتها في قلوب أصحابها ليستيعدوا موسيقى إرتجفت قلوبهم بما جرى . كان عبد الحليم يعلم أن الحزن هو قلب حياته من البداية لأن الرحم الذى اندلق منه قد انسحب إلى التراب، ماتت الأم لحظة الميلاد. وبقى له نسيج متوتر من أكثر من قصة عشق، وغناء لا ينفذ تأثيره نداء وشوقاً، ورجاء، واستسلاماً، وكبرياء، وتوسلاً، ومطاردة وتردداً، وجحيماً، وجنة، وابتهالاً، وصراخاً، ودموعاً، ثم آهة طويلة تصل بين أول فنجان مقلوب وهو ميلاد عبد الحليم من رحم الأم، إلى إن اندلقت الحياة من جسد عبد الحليم ليصير إلى التراب بسبب الكبد الذي أصيب بالتيبُس. وآه من تحولات الكبد بعد أن عجز عن تنقية الدم من هرمونات الأنوثة ، وتركها تختلط بهرمونات الذكورة ، فينقلب مزاج صاحب الكبد في رحلة دفاع متوحشة عما تعلمته خلايا الجسد من أنه رجل والرجولة تقتضي المغامرة العاطفية والإندماج اللاهث وراء كل تجربة تناديه . ولذلك تعددت تجارب عبد الحليم العاطفية ؛ ولتنكسر تلك التجارب بهرب عبد الحليم مع إتهام الشريكة بأنها من خانت . كنت أعلم تفاصيل الصراع في جسد من دراسة علمية عن غدة صماء موجودة أسفل العنق اسمها « غدة الثايموس « مهمتها تدريب وتعليم كل خلية في جسم الفرد على أنها تخصه وحده بخصائصها التي لا تتشابه مع أي شخص آخر ، فضلا عن تدريب الخلايا على مهامه كرجل إن كان رجلا أو مهامه الأنثوية إن كان الجسد لأنثى . وتنهي هذه الغدة الصماء عملها فور البلوغ ويعيش الإنسان ليواصل جسده الرحلة بما تعلمته خلاياه . لكن ماذا يحدث حين يصاب الكبد بالخلل ؟ كان كبد عبد الحليم قد أصيب بالصفراء بعد أن داهمه نزيف حاد في يوم وفاة جمال عبد الناصر ، هذا الذي كان يدعوه على العشاء كل 23 يوليو ليجلس معه ومع عبد الحكيم عامر ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم . وكان ذلك العشاء هو « الدينامو « المولد لطاقة الأمل عند عبد الحليم وكان يمارس الشقاوة الممتزجة بالشجاعة والقدرة على الكلام ، بينما كانت أم كلثوم تستند إلى رصانة الثقة في أنها المطربة الأساسية التي يطل صوتها على مشاعر عبد الناصر وهو في مكتبه ، هذا المكتب الذي يترقب كل الكون شرقه وغربه وشماله وجنوبه ما يخرج منه من أفكار وكلمات ورؤى ، أما عبد الوهاب فهو الصامت الذي لا ينطق الإ بكلمة « الله يخليك ياسيادة الريس « لدرجة أن عبد الحليم طلب ذات مرة لقاء مع عبد الناصر من أجل الحصول على نسبة إعفاء من الضرائب ، وذهب عبد الوهاب بحكم رئاسته لجمعية المؤلفين ومعه عبد الحليم الذي طلب الموعد ، ولم ينطق عبد الوهاب بكلمة واحدة بينما كان عبد الحليم هو الذي شرح لعبد الناصر المسألة كلها فأمر بإعفاء الفنانين بنسبة تتيح لهم الراحة في الإنتاج الفني . ولأن عبد الناصر لا تفوته « نكته» لذلك قال لعبد الوهاب « إنت إتكلمت كثير يا أستاذ علشان أحقق لك الطلب ده « . وطبعا ضج الثلاثة بالضحك . وكان صوت ضحكة عبد الناصر الخارجة من قلبه هي التي أطلت في خيال عبد الحليم بعد أن تلقى مع عموم المصريين خبر إفتقاد الزعيم الحبيب . ولأن طبيب عبد الحليم هو د. هشام عيسى كان واحدا من كبار أطباء القوات المسلحة فقد شاء حظ عبد الحليم أن يكون هشام عيسى في وردية عمل مهمة في مستشفى بعيد عن العجمي ، أي بعيد عن عبد الحليم لحظة أن داهمه النزيف . وتم نقل عبد الحليم إلى مستشفى المواساة ليرتبك الطبيب الموجود ولينقل له كيسا من الدم لتعويض ما فقده . طبعا لم تكن مستشفى المواساة السكندرية تعلم أن هشام عيسى طبيب عبد الحليم لم يكن ينقل له الدم جزافا ، بل كان يصر على وجود إثنين أو ثلاثة ممن تتطابق أوصاف دمائهم مع دم عبد الحليم ويأخذ منهم على الفور ليعطي عبد الحليم . ولم يكن عبد الحليم ولا طبيب مستشفى المواساة يعلمان أن كيس الدم الذي نقل لعبد الحليم كان يحمل « الصفراء» . لتبدا من بعد ذلك اليوم رحلة إلتهاب الكبد بالإضافة إلى دوالي المريئ . ولم يكن هناك بد من بدء رحلات علاج تتفق في تفاصيلها وتختلف ، ففساد الكبد يعني فساد كثير من وظائف الحياة . وكان عبد الحليم في تلك الأيام قد عاش التوافق مع القصر الملكي المغربي ، وصار يوليو هو شهر زيارة المغرب وأسبغ عليه الحسن الثاني كامل الرعاية . وعاش لشهور وأيام في قمة البلاط المغربي إلى أن جاء إنقلاب مدير مخابرات المغرب الجنرال أوفقير على الملك . وكان حظ عبد الحليم الصعب أن يتواجد في لحظة الإنقلاب داخل إستديوهات الإذاعة المغربية ليقوم بمونتاج لأغنية محبة للملك الحسن . وفوجئ بأن ضباط الإنقلاب يطلبون منه أن يقرأ بيانا ضد الملك الحسن ، فتمالك نفسه ليقول « هل تريدون أن تصفوا إنقلابكم بأنه بمساندة مصرية ؟ ثم كيف سيصدقني الناس وهم قد سمعوني ليلة أمس وأنا أغني للملك ؟ . ثم سمحوا له بالخروج لدورة المياه فزحف على بطنه من دورة المياه إلى الشارع ، ليجد أمامه طبيبه هشام عيسى الذي راوغ هو أيضا ومعه الكاتب محمود عوض ليصلا إلى الإذاعة ومن بجوارها ركب الثلاثة سيارة تحملهم إلى فندق هيلتون ليجدوا عبد الوهاب في حالة رعب غير عادية فتلك الرحلة قام بها لمشاركة عبد الحليم في خيرات الملك الحسن . وكان يقول « أوصل للمطار إزاي ؟ « قال ذلك وهو الذي لا يركب أي طائرة إلا مضطرا . ولكن جاء حفل أخر بالمغرب ، وتلمع أمام عيون عبد الحليم أشعة بعض من الصلصة ، فأراد أن يغمس منها لقمة ، وما أن وضعها في فمه إلا لينفجر من فمه نزيف حاد لأنها كانت صلصة حراقة ، قامت على الفور بتفجير بعض من دوالي المرئي ليتم نقل عبد الحليم إلى باريس بالطائرة ليدخل مستشفى سالبياتير . وفي باريس تيقن هشام عيسى وعبد الحليم أن الكبد قد باظ في معظمه والحفاظ عليه هو الرحلة القاسية ، ولا ينسى أحد دموع عبد الحليم في المستشفى الباريسي متذكرا إنتحار التومرجي الذي كان يصحبه في كل مكان ولا تدخل إبرة في جسد عبد الحليم إلا بيد هذا الممرض، وكان سبب إنتحار التومرجي هو رفض أحد المعاونين لعبد الحليم إعطاءه سلفة قدرها مائة جنيه ، وقد طلبها بمناسبة نجاح إبنه في الثانوية العامة والذي طلب بدلة جديدة ، لكن معاون عبد الحليم قال له « يعني لبس عبد الحليم اللي بيديه للواد مش عاجبه ؟ إبن مين إبنك في البلد؟ ّ سمع الرجل تلك الجملة فصعد ليلقي بنفسه من أعلى المنزل. وهاهو عبد الحليم يبكي في المستشفى الباريسي ، وليؤكد لي بعد ذلك أن الحياة لا تفسدها إلا الأخطاء الصغيرة التي تتراكم . فخطأ البلهارسيا التي إلتقطها من السباحة في الترعة هي التي أفسدت دوالي المرئء خصوصا بعد أن إحترف الهرب شقيقه إسماعيل كيلا يأخذ إبرة مقاومة البلهارسيا. وخطأ طبيب مستشفى المواساة نقل له دم مصاب بالصغراء ، وإعتبره عبد الحليم عقابا على خطأ إرتبكه أحد معاونيه عندما رفض إعطاء سلفة المائة جنيه للتومرجي الخاص . وخطأ الطمع في لقمة بالصلصة أورثه هذا النزيف الحاد . حاولت سعاد! الأخطاء على صغرها تتراكم لتصنع حبلها غير المرئي حول عنق الفرد مهما علا مقامه . فخطأ عدم الإسراع بالزواج من الحب الأساسي في حياته أورثه تشتتا عاطفيا حاولت سعاد حسني أن تنقذه منه لكنه لم يستجب فقد أخطأ بتنفيذ وصية الكاتب الكبير مصطفى أمين بألا يتزوج حتى يظل على قمة قلوب المعجبات . مصطفى أمين المسجون في قضية التجسس الشهيرة ، وقد وصلت منه رسالة لعبد الحليم بأن يتفق نيابة عنه مع سعيد فريحة صاحب مجلة الشبكة ودار الصياد اللبنانية ليكتب فيها بغير إسم . وأن يحصل على أجر المقالات ليعطيه لإبنة مصطفى أمين صفية . ووجد عبد الحليم في نفسه الشجاعة ليبلغ مكتب عبد الناصر ولم يرفض عبد الناصر هذا الأمر . وكانت روايات مصطفى أمين تنشر بالشبكة ويصل أجرها لإبنته . ولم يكن لسعيد فريحة أن ينشر لمصطفى أمين دون الحصول على قرار بإغماض العين من قبل الأجهزة المصرية. ومن الخطأ أيضا أن ترك أكثر من تجربة عاطفية دون إكتمال . ولكن كان السبب في عدم السماح للتجارب العاطفية في سنوات ما بعد 1970 هو الخلل الداهم الذي أصاب الكبد فأصبح غير قادر على مهمة قتل هرمونات الأنوثة التي يفرزها الجسم _ أي جسم لرجل _ فإختلطت هرمونات الأنوثة بهرمونات الذكورة ليعيش صراعا ضاريا مدافعا عن رجولته بالإنغماس في التجارب العاطفية دون إكتمال . ولا أنسى الحوار بيني وبينه وأنا أقول: ألن تتزوج حتى تنتهى من كل هذه الدموع؟ ضحك قائلاً: وهل سترضى بنت الباشا بى؟. كنت أعلم أنه يريد أن يتزوج بابنة باشا سابق، ليكن اسمها فى هذه الأوراق «ناهد». أذكر أنى رأيت ناهد لأول مرة وأنا أدعو عبد الحليم ومن يرى من أصدقائه إلى مسرحية ما فى المسرح القومى أو الأوبرا القديمة، لا أذكر هل «عائلة الدوغرى» لنعمان عاشور أم هى «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور. وجاء عبد الحليم ومعه ناهد وشقيقتها المتزوجة من دبلوماسي أحاله عبد الناصر للتقاعد، وكان الحوار يدور بين ناهد وعبد الحليم كمحاولة لاكتشاف كل منهما للآخر. وكنت أضحك بينى و بين نفسى، فعائلة الدوغرى التى أتذكر الآن مواقفها تحكى عن رحلة الصعود الاجتماعى، ومأساة الحلاج تحكى عن قصة صناعة العدل حتى وإن صعد الحالم بالعدل على الصليب، فهل كان عبد الحليم يرى فى ناهد رحلة هرب من دنيا قديمة، دنيا قرية «الحلوات»، حيث البيوت المتلاصقة بفقرها الرمادى، ونساء ينظرن إليه بقسوة الخوف من أن تموت الواحدة منهن بعد ميلاد وليدها، مثلما ماتت أم عبد الحليم، ثم محاولة إخفاء القسوة بحنان احتضان الطفل عبد الحليم وإعطائه الثدى. والغريب كما قالت لى «الحاجة عليّة»شقيقة عبد الحليم فى شرفة خلفية من بيت عبد الحليم: لم يكن يقبل أى ثدى تقدمه امرأة له، كان يملك إحساساً بالمرأة، فمن كانت تريد أن ترضعه لأنه طفل جميل وطيب، كان يُقبل على الرضاعة منها. أرى الزواج مقلبا قال عبد الحليم: أليست ناهد جميلة؟ قلت لعبد الحليم: لست أنا الذى سأشرب المقلب وأتزوجها، ولست أنا الذى سأرتوى بالسعادة معها. وكان يعلم أننى أرى الزواج مقلباً يشربه الرجل والمرأة معاً، وهو أيضاً رحلة اكتشاف السعادة إن تفاهم الاثنان بصراحة. وأقول: الذى تتكلم فيه باستمرار هو عدم رضاعتك من ثدى امرأة هى أمك. أختك عليّة هى التى قالت إنك لم تكن تقبل ثدى امرأة لترضع منه بعد وفاة والدتك وأنت الآن تتحدث عن الزواج، وكأن الزواج ثدى بعيد وأنت تتأرجح بين فكرة الرضاعة منه أو الهرب بعيداً عنه، ثم مالى أنا بكل أحوالك الغرامية؟ أنا لى أحوالى التى تقلقنى. وأنا غارق في تجربتي التي أسليها بقراءة عن حياة «فرانز فانون».. طبيب الأمراض العقلية، الذى يمكن أن يساعدنى فى فهم أول انقلاب فى الجزائر، انقلاب هوارى بومدين على قائد الثورة أحمد بن بيلا، ثم الحضور إلى رؤياك، ثم الجرى لارتداء الملابس التى تليق بدعوتك أنت وأسرة ناهد، ثم أنت تسألنى السؤال الذى لن تجيب أنت عملياً عنه أبداً، وهو الزواج. قال عبد الحليم بغضب: ما الذى تقصده بأننى لن أتزوج أبداً؟. قلت: لست أقصد شيئاً من العجز لا سمح الله، فلو كانت جدران حجرتك لها أصوات لأذاعت لك الوصف التفصيلى لعشرات القبلات بينك وبين عشرات النساء، لكنك تحترف الإخلاص المؤقت، الإخلاص فى البحث عن لحظة أمان مع أى فتاة، ليبدأ كل منكما ممارسة دور العاشق المولود منذ لحظة، ثم انتهاء الأمر بقبلة، ثم الوداع إلى لقاء، ثم مراقبة حال المعدة وأكل الفول المهروس، والاطمئنان على فردوس وعليّة ومحمد شبانة، وشحاتة ابن خالتك، ثم قراءة أسماء من اتصلوا بك تليفونياً فى أشهر رقم تحفظه نساء مختلفات «808095»، ثم بعد ذلك الكوتشينة وأنت تعلم أننى لست من عشاق الكوتشينة. ** وأعيد النظر إلى ناهد، فتاة فى الرابعة والعشرين، طالبة فى الجامعة الأمريكية، تنظر لى بعيون إستكشاف لتحاول الإجابة عن سؤال: من هو هذا الصحفى الذى اختارته فلانة ليكون حبيبها، وفلانة هى حبيبتى، وكانت تتميز بحيوية هائلة فى دراسة الاقتصاد فى جامعة أوروبية، ودائماً ينقسم الناس إلى قسمين، من يعرف الشاب ينظر إلى الفتاة ليحاول استكشاف من هى الفتاة التى اختارها وهل تساويه؟ ومن يعرف الفتاة ينظر إلى الشاب بتساؤل: ومن هو الشاب الذى اختارته الفتاة ليكون شريكاً معبوداً لقلبها؟ ناهد هى المرشحة لأن تكون خطيبة عبد الحليم حافظ. بعد أن خرجنا من المسرحية قالت أختها المتزوجة: سأترك ناهد معكما لنزور أسرة صديقة لمدة ساعة ونعود لنأخذها من الهيلتون، قالت لى ناهد ونحن نجلس في روف الهيلتون: هل تحب المسرح المصرى إلى هذا الحد؟ إنها المرة الأولى التي أرى فيها مسرحية مصرية. أجبت: أحب تكثيف حركة الحياة اليومية المبتذلة فى مواقف حساسة، والمسرح المصرى يفعل ذلك هذه الأيام. هانحن نجلس مع عبد الحليم حافظ، أنا أعرف لماذا أحب صوته؟ لأنه لا يبتذل المشاعر، فهل تعرفين لماذا تحبين أنت صوته؟ وكأنى بهذا السؤال فتحت أبواب أشواقها التى تزين بها نفسها للمرحلة الجديدة، فكل فتاة عند عمر معين تصبح كالشجرة المخلوعة من بيت أبيها، حتى ولو كان من الأثرياء، الزواج للبنت يرغبه الأب ليرى الحفيد، وليطمئن إلى أن الشكل الاجتماعى لممارسة الحب قائم. وإذا كانت أوروبا تقول «القرون المضيئة من حق الزوج لا من حق الأب» فالقول يعنى أن الرجل الذى لا يسعد زوجته هو الذى يستحق أن تتجه زوجته بالحب لغيره، وهذا يعنى أنها ستزرع له قروناً بتجربة عاطفية، وأن هذه القرون ستضىء بأضواء مستمدة من الشائعات، أما الأب فهو لا يستحق ذلك إلا فى حالة أن يجبر ابنته على الزواج. يضحك عبد الحليم من المثل الأجنبى عن «القرون المضيئة التي من حق الزوج ليست من حق الأب» ويسألنى: كيف تجرؤ أن تتكلم مع فتاة تراها لأول مرة بمثل هذا الكلام؟ وكنت أقول بهدوء: لا شىء، المسألة إخلاص يظهر فى أسلوب الكلام، وبعد ذلك من حقك أن تقول ما يحلو لك، هو إخلاص لن يوازى إخلاصك وأنت تغنى. هنا قالت ناهد: لقد سألتنى سؤالاً صعباً هو ما الذى يجعلنا نحب صوت عبد الحليم؟ أقول: ليس السؤال صعباً، لأن صوت عبد الحليم يكثف لنا حقيقة الإحساس باحتياج الرجل لامرأة تفهمه، وحقيقة إحساس المرأة لرجل يفهمها، ، وأنا الآن أنظر إليك بسؤال: من هى ناهد التى تلعب فى خيال عبد الحليم حافظ كفتاة يمكن أن تعطيه ابناً؟ وطبعاً لا يهمنى أن الوالد باشا سابق وأن زوج الأخت دبلوماسى سابق، وأن كل شىء فى حياتكم مصنوع فى بلاد أسماؤها صعبة على لسانى فطقم الصينى «ليموج»، وطقم الشوك والسكاكين «كروستوفل»، وطاقم الصالون «أوربيسون»، وسجاد الأرض شينواه أو عجمى، واللوحات التى فى المنزل أصلية، والطباخ فى منزلكم يقدم الطعام ثلاثة أطباق متتالية، سمك، لحم، منوعات، ومن يدخل منزلكم يشرب العصير الطازج أولاً ثم القهوة من بعد ذلك، ولابد من وجود فاكهة مجففة. ولابد من وجود شىء مستورد خصيصاً للأسرة. وقد يكون مثل كل ذلك موجوداً عند عبد الحليم حافظ، لكن ذاكرته تحمل عالماً لا تعرفينه أنت، عالم الزقازيق، والأكل بخجل في بيت الخال، وتعلم الموسيقى فى مدرسة داخلية للفقراء، ثم الحياة مع إسماعيل شبانة فى بركة الفيل بالسيدة زينب، ثم تذكر «نعيمة» السيدة التى حلم بها كل مراهقى مدرسة الفقراء الداخلية هكذا كنت أسمى الملجأ الذى قضى فيه عبد الحليم سنواته الأولى هذه السيدة التى كانت تنام فى حضن كل مراهق بالخيال والوهم كل ليل لتخفف عن الجميع أحزان الحياة بلا أمهات. ثم سنوات المعهد العالى للموسيقى، وتلك حياة تختلف عن حياتك حيث كل شىء مرسوم من قبل أن تعرفيه، اسم الدادة، عدد اللغات التى سوف تدرسينها، أسماء الروايات التى سوف يسمح لك بقراءتها، وأسماء الكتاب الذين لن تقرأى لهم، ألوان الفساتين المناسبة للون بشرتك، أسماء البنات اللاتى سيسمح لك بأن تكونى صديقة لهن، من سيخدمك من الدادات؟ ثم الرقابة على الدادة بالتجسس عليها خوفاً من أن تكون رسول غرام شريراً، ومراقبة السائق وكيفية نظرته إلى سيدته، ثم الإحساس بأن عبد الحليم يرغب فى الزواج. والكل يعلم أنه خارج من قصة حب دامية. ماتت فيها الحبيبة بعد التهاب غشاء المخ. وحزن الرجل على افتقاد امرأة يثير شهية خافتة داخل الفتاة التى لم تجرب الحب، إنها ترغب فى تحدى الموت، تماماً كما تثير الأرملة خيال الرجل، الرجل يرغب فى تحدى الموت، فيحلم باحتضان الأرملة. قال عبد الحليم لناهد: لو ظللت تستمعين لمنير لما صار عندنا وقت للكلام، إنه يريد أن ينافس أشهر المتكلمين: كامل بك الشناوى، ومحمود السعدنى. وهنا انتبهت إلى أننى تكلمت أكثر من اللازم، فقلت لعبد الحليم: هيا اعزف على الأبوا، خذ الأبوا من هذا العازف فى فرقة موسيقى الهيلتون واعزف عليها. ومن يعرفون عبد الحليم حافظ جيداً يعرفون كم أحب آلة الأبوا، إنها التى انتقل بها من طفل ملجأ إلى طالب فى معهد الموسيقى. قال عبد الحليم: تصور أن أول آلة موسيقية فى حياتى هى عود برسيم. ضحكت قائلاً: أنت نسيت أننى شرقاوى مثلك ورأيت عود البرسيم فى فم كل طفل من الأطفال وهم يودعونه أسرار الحب عندما يعزفون على عود البرسيم. تساءلت ناهد: كيف يمكن أن يعزف الإنسان على عود البرسيم؟ قال عبد الحليم: تعرفين أن عود البرسيم مفرغ من داخله، وبتنظيم النفخ فيه ينتج موسيقى كصوت المزمار البلدى. أبدت ناهد اندهاشها، وهو اندهاش من ترغب فى استكشاف عالم لا تعرفه، قلت لها: احذرى فأنت تسمعين كلمات ابن ولى الله شبانة الكبير، وشبانة الكبير إن كنت لا تعرفين هو الجد الأول لعبد الحليم وله مولد فى الحلوات، وأحلى ما فى المولد هو حلقة الذكر التى يرقص وسطها حصان من فرط النشوة. نعم فأجداد عبد الحليم وأعمامه من أحفاد شبانة يجعلون الحصان يرقص على أنغام خارجة من عود برسيم، وعبد الحليم درس الأبوا لأنها أقرب الآلات إلى الحزن المطموس بين الصدر والروح. إنها تعزف موسيقى الفؤاد، أى المنطقة التى تحيط بالقلب مباشرة. ضحك عبد الحليم قائلاً: منير يصورنى كأنى ساحر، والحقيقة إنها مسألة إحساس. والشبانية هم طريقة صوفية فى الشرقية. جاء الجد الكبير من الحجاز، وارتفع صوت مناجاته كحفيف ورق شجرة الصفصاف. وتزوج الرجل واستقر وأنجب، ومن فرط حبه لزوجته كان يقول «الله» لأن المرأة الصادقة فى حبها تجعل الزوج يشعر بجمال عظمة خلق الله، والمزمار هو الذى ينشد الموسيقى فى الطريقة الشبانية الصوفية. حيث لا يرى أحد إلا ما يحب. بالموسيقى يرى الرجل خيال المرأة التى يحبها، والمرأة ترى خيال الرجل الذى تحبه. والمولد هو خروج القرية عن العالم المرسوم، فالعيون مفتوحة من الجميع، ولا يرى أحد من الجميع إلا نفسه، وللمزمار سحر خاص، لذلك سافر المزمار إلى الغرب عبر الشعراء الجوالين ليزور صقلية والأندلس، وليتطور وليصبح آلة الأبوا التى تعلمت العزف عليها. لحظة غروب لندن وأعيد النظر إلى بشرة ناهد السمراء، وتسحبني تذكاراتى إلى لحظة غروب لندن، حكى لى عبد الحليم حافظ عن «ليلى» قصة حبه الأساسية. أحفظ تقريباً نصوص ما قاله لى عن هذه الجميلة التى أراد أن يهديها العالم ليقترب منها. كانت تريد أن تحيا معه إلى الأبد، كانت حبيبته هى أغنيته الوحيدة فى أعوام1965، وحتى عام1970، يحكى عنها كأنها الكون والأمل، ولكن ليس هناك جسر بين الواقع والأمل، الأمل بالنسبة لعبد الحليم من لحظة أن التقى بليلى أن تسقط نجمة من السماء ليسكن فيها معها. كثيراً ما نادى علية شقيقته ليسألها «هل حقيقى أن ليلى تحبنى»، قال لى عبد الحليم: «أقسم بالعظيم يميناً يسألنى الله عنه يوم القيامة أننى لم أحب امرأة مثلما أحببت «ليلى» لكن «ليلى» يأكلها مرض غريب، «فيروس يأكل غشاء المخ» أقسم بالله العظيم أنى ما رأيت فى حياتى عيوناً مثل جمال عيونها، زرقاء لا أدرى؟ بنفسجية لا أدرى؟ رمادية؟ لا أدرى، وكأنى لا أجيد تمييز الألوان، لكنى كنت أعرف أن عيونها ملونة بالبهجة والأسى فى آن واحد، وأننى كلما نظرت إلى عينيها ازددت عطشاً فأعيد النظر مرة أخرى فلا أقوى، وأحاول أن أركز عيونى فى عيونها أكثر، وأن أحتضنها بعيونى أكثر، ولكنها تقترب لتبتعد، وتبتعد لتقترب، ولا أعرف هل أنا موجود فى الدنيا من أجل أن أحبها أم ماذا؟!! وصرت أعلم تماما خوف عبد الحليم من الاقتراب العميق من المرأة وشوقه فى نفس الوقت هو خوف داهم، ولا يعلم أحد أن هذا الخوف تعانق مع البلهارسيا مع الصفراء ثم الكبد الوبائي ليأكل كل هؤلاء الأشرار قدرة عبد الحليم على إتمام تجربة زواج مكتملة . لكن هناك أكثر من إمرأة حاولت عبور تلك الحواجز ليكون الزواج . فهل هناك من تنجح في ذلك ؟ للأسف نالت الكثيرات الهزيمة .