استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    حجازي: تعزيز آليات التعاون في الخدمات التعليمية المقدمة بمدارس (IPS) خلال الفترة المقبلة    «الخشت»: أحمد فتحي سرور ترك رصيدا علميا يبقى مرجعا ومرجعية للقانونيين    جامعة بنها تفوز بتمويل 13 مشروعا لتخرج الطلاب    أسعار الخضروات اليوم الثلاثاء 21-5-2024 في قنا    وزير النقل يبحث مستجدات تسيير خط «رورو» للحاصلات بين مصر وإيطاليا    أسعار اللحوم اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 في أسواق الأقصر    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    أسعار الحديد اليوم الثلاثاء 21-5-2024 في أسواق محافظة قنا    محافظ أسوان: توريد 225 ألفًا و427 طنًا من القمح حتى الآن    وزير الإسكان يصل بني سويف الجديدة بمستهل جولته التفقدية بعدد من مدن الصعيد    الجثامين بدت متفحمة.. شاهد لحظة العثور على طائرة الرئيس الإيراني    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    الأهلي يواصل استعداده لمواجهة الترجي بنهائي دوري أبطال أفريقيا    النصر السعودي يضغط لحسم صفقة صديق رونالدو    بالفيديو.. الأرصاد: طقس شديد الحرارة نهارًا على أغلب الأنحاء    تداول ورقة مزعومة لامتحان الهندسة ب«إعدادية القليوبية»    طلب تحريات حول انتحار فتاة سودانية صماء بعين شمس    تفاصيل الحالة المرورية في شوارع وميادين القاهرة الكبرى اليوم (فيديو)    تاريخ المسرح والسينما ضمن ورش أهل مصر لأطفال المحافظات الحدودية بالإسكندرية    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لمنطقة أبو غليلة    خبيرة تغذية توجه نصائح للتعامل مع الطقس الحار الذي تشهده البلاد (فيديو)    مبعوث أممي يدعو إلى استئناف المحادثات بين إسرائيل وحماس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    وزير الصحة يوجه بسرعة الانتهاء من تطبيق الميكنة بكافة المنشآت الطبية التابعة للوزارة    رقم تاريخي لعدد أهداف موسم 2023/24 بالدوري الإنجليزي    موعد عرض مسلسل دواعي السفر الحلقة 3    الحالة الثالثة.. التخوف يسيطر على الزمالك من إصابة لاعبه بالصليبي    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    حسم اللقب أم اللجوء للمواجهة الثالثة.. موعد قمة الأهلي والزمالك في نهائي دوري اليد    بشير التابعي: معين الشعباني لم يكن يتوقع الهجوم الكاسح للزمالك على نهضة بركان    جهات لا ينطبق عليها قانون المنشآت الصحية الجديد، تعرف عليها    الجنايات تنظر محاكمة 12 متهما برشوة وزارة الري    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    رغم انتهاء ولايته رسميًا.. الأمم المتحدة: زيلينسكي سيظل الرئيس الشرعي لأوكرانيا    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    احذروا الإجهاد الحراري.. الصحة يقدم إرشادات مهمة للتعامل مع الموجة الحارة    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    إصابة شخصين في حريق شب بمزرعة بالفيوم    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    حدث بالفن| حادث عباس أبوالحسن وحالة جلال الزكي وأزمة نانسي عجرم    «زي النهارده».. وفاة الشاعر أمل دنقل 21 مايو 1983    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالحليم حافظ القصة الكاملة
نشر في صباح الخير يوم 26 - 03 - 2013

هكذا كنت راقدا على منضدة إجراء قسطرة القلب الذى أنهكته الذبحة الصدرية المفاجئة، ولأنى لم أكن قد فقدت ثباتى ضحكت لأقول لمجموع الأطباء الكبار الملتفين حولى «ستجدون فى هذا القلب أكثر من حكاية تفوق حكايات ألف ليلة وليلة أو كتاب الأغانى للأصفهانى».
وكان سيد الغرفة هو شريف مختار الحكيم الذى شرب خبرة العلم من مصر والولايات المتحدة، ومضى يزرع فى قصر العينى ما يمكن أن نعتبره أسطورة من إنجاز رجل واحد، قال «هل تتوقع أن تكون ذكرياتك فى قلبك؟ هذا اعتقاد غير حقيقى». أجبته على الأقل ستجد أكثر من قصة حب، وستجد شخصيات على مسرح قلبى تبدأ من عبدالحليم حافظ الذى سرت فى زوايا حياته بكل تفاصيلها، وستجد فى هذا القلب قصة إشرافى على إعداد تفسير الشيخ الشعراوى من البداية وحتى سورة النحل، وقد خبرت الرجل عن قرب، وعرفت سماته بالطيب فيها وبالمرير أيضا، وستجد من قبل هذين النجمين تاريخ حياة الفنان الرسام سيف وانلى، ومن المؤكد أن فى القلب مساحة للنحات المصرى كمال خليفة، وهناك مئات الأصدقاء، ويحيط بهم جميعا شكل قلبى، ولا تندهش إن وجدت القلب على هيئة جمال عبدالناصر، فقلبى تشكل على هيئة هذا الرجل، بل إننى عندما أغضب منه أستخرج قلبى بعيون خيالى لأعاتبه، وما إن أتركه من يدى - فى الخيال - حتى يعود من جديد على هيئة جمال عبدالناصر. وهنا سمعت ضحكة رئيسة قسم الرعاية الحرجة الأستاذة عالية عبدالفتاح وهى تقول لى «لست وحدك الذى تشكل قلبك على هيئة عبدالناصر». وسمعت ضحكة أخرى من الذى أمضى ثلاثة أيام فى رعايتى من تلك الذبحة بآلامها، الأستاذ الدكتور تامر فهمى؛ هذا الذى امتلك مهارة إعادة ضبط موسيقى غرف القلب ببراعة غير مسبوقة فى التاريخ المصرى المعاصر، وقلت لتامر يمكنك أن ترى على شاشة المونتور المتحرك أمام عيونك كيف شربت بعيونى ومشاعرى روزاليوسف وصباح الخير بكل تاريخهما، وطبعا ستجد لجدك المقاتل الأساسى فى ثورة1919 أثرا فى قلبى، فجدك عبدالرحمن فهمى كان من المؤسسين عشقا لروزاليوسف والصديق الأثير لمؤسسة المجلتين.


وأخيرا طلب منى أحمد عبدالعزيز سيد توسيع الشرايين بالقسطرة أن أصمت، لأن يد أستاذه شريف مختار قد أدخلت القسطرة إلى الشرايين، وبدأ رحلة البحث عن الضيق فى الشرايين، وهمست لصورة د.حسين خيرى عميد الطب قائلا: «أحسنت حين اخترت اسم الدفعة التى تتخرج من الطب لقب» دفعة شريف مختار هذا الذى لم يدخل تلك المهنة إلا من باب الأنبياء لا من أبواب جامعى الثروات.
سألنى تامر فهمى «هل أنت واثق أن شرايين قلبك تحمل كل تلك الذكريات، هنا قلت لتامر «سأتوقف عند عبدالحليم حافظ، فقد آن أوان كتابة قصته كاملة، من الميلاد إلى الميلاد؛ فمنذ أن ولد كمطرب عام1951 وهو يولد دائما مع كل قصة حب، بل إن أغانيه تصلح كمؤرخ عاطفى للمشاعر بعنف أحداثها ورقة وقائعها وشفافية أحزانها».
تركتهم يوسعون فى شرايين قلبى وغرقت بعيون خيالى فى تفاصيل حياة عبدالحليم حافظ.


فى أحد أيام يونية1926 صرخت السيدة بهانة فى بيت ريفى متواضع بقرية الحلوات لتلد طفلا هو عبدالحليم شبانة.
وفى يوم من أيام أبريل 1977 صرخ عبدالحليم نفسه فى غرفة مستشفى لندنى ليغادر الحياة.
وبين الصرختين دارت حياة فنان ترفرف على أجنحة صوته أحاسيس قصص الحب.
وكلنا نعلم أن عشرات الكتب ومئات المقالات وآلاف التفاصيل التى أخذتنا إلى عالمه الساحر. ابتسم له حين قال «لى شرف أن تكتب قصة حياتى»، وعملت أنا على هذا العمل منذ يناير1964 حتى بدأت نشرها فى سبتمبر 1973. والآن أقول بمنتهى الثقة إن أغلب من كتبوا عن عبدالحليم قد اعتمدوا على ما كتبت، حتى الذين هاجمونى عادوا بعد سنوات ليؤكدوا ما رويته عبر تلك المذكرات.
وأتساءل: هل تذكر تفاصيل حياة عبدالحليم يمكن أن يخفف من آلامى؟ أجيب نفسى: فات من الزمن على رحيل عبدالحليم قرابة الستة والثلاثين عاما، وهناك أجيال لا تعرف القصة، فضلا عن أن هناك دائما جديدا فى تفاصيل حياة هذا الرائع، فكما تتوهج المشاعر فى كل قصة حب على أنغام صوت عبدالحليم؛ كذلك يصدر من هذا الصوت رؤية جديدة لعالم الشجن الذى عاشه عبدالحليم، منذ الميلاد إلى الميلاد؛ منذ ميلاده كمطرب؛ إلى ميلاد أى قصة حب تؤرخ أفراحها وأحداثها عبر «صافينى مرة وجافينى مرة» إلى «بصرت ونجمت كثيرا لكنى لم أقرأ فنجانا يشبه فنجانك».
والآن إلى عبدالحليم حافظ من جديد ؛ لنقرأ القصة الكاملة.

عيون شادية فى عيون عبدالحليم .. وسعاد حسنى تنتظر

كان عبدالحليم يقف فى حديقة الأندلس فى مساء يوم من أيام مايو 1964 ليصور بعضا من لقطات فيلمه ''معبودة الجماهير مع شادية. وكنت أقف فى مكان التصوير، والحاج وحيد فريد يقول له «فاكر»؟.
وقال عبدالحليم وهل هذا شىء يمكن نسيانه؟
قلت: من تلك الحديقة ومن هذا المسرح بدأت رحلة الذوبان فى مشاعر الناس.
قال: هذا زمن لا يغيب أبدا عن ذاكرتى. ولون أزهار وأشجار حديقة الأندلس يمكن أن يعبر لك عن خوفى وقلقى فى ذلك المساء من عام 1953 وفنان الشعب يوسف بك وهبى يقول «إليكم صوت ستحبونه كثيرا الفنان عبدالحليم حافظ». كنت لا أريد أن يفتتح الحفل بى. تعرف أن الجمهور فى بداية أى حفل؛ لا يكون فى حالة الاندماج المناسبة لسماع أى مطرب؛ والمطرب الذى يتم افتتاح الحفل به فى الحفلات الجماعية يعرض نفسه للحرق. يعنى لن يسمعه أحد بتركيز.

وقطع حوارنا المصور وحيد فريد لينادى عبدالحليم ليركب دراجة ويغنى.. ولم يكن عبدالحليم فى حاجة لأن يقول لى بقية تفاصيل الحفل الأول؛ فقد كنت أسمع له يوميا وأسجل فى يومياتى ما يقول.



كان قد طلب منى أن أجمع ما يقوله لى فى أى لقاء ليكون مادة لمذكراته.
قال لى ونحن نسير فى شارع الشانزليزيه فى باريس يوم 4 يناير عام 1964 «سأغنى لك فى يوم عيد ميلادك؛ شرط أن تغنى أنت بأسلوبك تفاصيل حياتى. قلت له: الفنان الوحيد الذى كتبت قصة حياته هو الفنان سيف وانلى. وعندما جاءت تفاصيل قصص حبه خاف. ضحك عبدالحليم: أنا لن أخاف. سأحكى لك عن أول بنت جيران أحببتها إلى آخر قصة حب. قلت: هل ستحكى عن «ليلى»؟
قال: سأحكى عن ليلى وعن غيرها؟ قلت: مقلدا صوته «فى يوم فى شهر فى سنة تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أكبر من الأيام». وامتلأ وجه عبدالحليم بحزن يخفيه دائما، ولكن تكشفه كلمات تلك الأغنية.
واعترف أن هذه الأغنية هى المفتاح الأساسى لشخصية عبدالحليم حافظ؛ فمهما ضحك، ومهما اندمج؛ فكلمات هذه الأغنية هى الجرح الكبير؛ الجرح الذى جاء منه هو بطن أمه السيدة بهانة التى ولدته فى 12 يونية 3291 لتنزف وتودع الحياة دون أن يتذكرها، وجرح وقوفه أمام مصطفى بك رضا رئيس لجنة الاستماع للأصوات الجديدة فى الإذاعة، ثم مفاجأة مصطفى رضا القاسية «يا ابنى إنت تغنى مثل الخواجات؛ الغناء الشرقى مختلف». لم يكن مصطفى رضا يعلم أن عبدالحليم هو من كان يطرب الفرس لغنائه وهو طفل فى مولد جده الشيخ شبانة. لم يكن مصطفى رضا يعلم أن جد عبدالحليم هو شيخ الطريقة الصوفية المسماة «الطريقة الشبانية» وشهرة هذه الطريقة أن الفرس أى فرس يرقص على صوت أى منشد فيها حتى ولو لم تصحبه آلات. الشيخ شبانة الكبير كان حادى القافلة التى تقطع المسافة بين جبل الطور وبين مكة المكرمة والمدينة المنورة. وحادى القافلة لا يملك إلا بصيرته وصوته؛ ومناجاة السماء بهمس خافت مسموع.
شبانة الكبير جاء من الحجاز ليرى امرأة فى سوق الحلوات بمحافظة الشرقية، فيرتبط قلبه بها؛ ويتقدم لوالدها؛ ولا يجرؤ رجل أن يرفض نسبا مع واحد من بلدة النبى صلى الله عليه وسلم. وكان الزواج الذى أنجب به شبانة ابن مكة الأبناء الذين انتشروا فى بر مصر شمالها وجنوبها.
والطريقة الشبانية التى تنتمى لها عائلة عبدالحليم تقيم مولدا سنويا لسيدى شبانة الكبير. وعبدالحليم الطفل الصغير كان يمتلئ بالزهق من ضجيج المولد، لأن أحدا فى المولد لا ينتبه إلى ما يفعله الآخرون، لكن هناك لحظة من الصمت تسود المولد؛ حين يبدأ أحد الشبانية فى العزف بالمزمار ليرقص الخيل على أنغامه؛ وليبدأ صوت أحد الشبانية فى الغناء فيردد الجميع وراءه ذكر الله والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم. وحين كان عبدالحليم فى السابعة طلبوا منه أن يؤذن فى الجامع آذان العشاء إيذانا ببدء المولد بعد صلاة العشاء. مازال يذكر صوت خالته نعيمة وهى تقول له «صوتك ندى وطرى وحنين.. ربنا يحبب فيك خلقه» هل هبطت هالة القبول من السماء فى تلك اللحظة لتلف عبدالحليم طوال عمره؟
هو لا يعرف؛ ولكنه يعرف أن أحدا من الكبار لا يضربه أبدا، حتى عندما هجم عليه حصان شرس فى المولد؛ لم يقترب منه أحد، لكن الحصان راح يمسح وجه عبدالحليم برأسه. وقال الناس «يا حلاوة النبى يابركة المدااد». وقام عبدالحليم ليستقر بجانب الشبانى الذى ينفخ فى المزمار لترقص الخيل. وأعطى الشبانى عبدالحليم المزمار؛ فوجد عبدالحليم نفسه وهو قادر على النفخ فى المزمار وإصدار نفس الأنغام التى يرقص الخيل عليها.
وفى الكبر حين التحق عبدالحليم بالمعهد العالى للموسيقى المسرحية، اختار له محمد حسن الشجاعى المؤلف الموسيقى المشهور والأستاذ بالمعهد أن يدرس آلة الآبوا؛ وهى من أصعب آلات العزف. استعملها عبدالوهاب فى «الحبيب المجهول» و«سجى الليل». ويصفها عبدالحليم بأنها المزمار البلدى الذى سافر إلى أوروبا وعاد أنيقا وله إمكانات مختلفة، تماما كما سافرت ليالى الموالد من الشرق إلى الغرب، ثم عادت فى شكل قصص موسيقية يقال عنها «الأوبرا».

الآن يغنى عبدالحليم حافظ مع شادية فى تناغم «حاجة غريبة» وليل حديقة الأندلس يحمل نسمة هواء فى صيف القاهرة الساخن.
كان الصيف ساخنا جدا حين قدم يوسف وهبى ليلة الاحتفال بعيد 23 يوليو من على مسرح الأندلس وكان المطرب الأول فى أول ليلة من ليالى أضواء المدينة وفى حفلها الأول؛ هو عبدالحليم حافظ. وانفتح الستار على ستين عازفا أمام كل منهم نوتة موسيقية. تذكر عبدالحليم أن يتمتم ب «سورة الواقعة» قبل أن يبدأ الغناء. كان شيخ القرية يقول له «إذا مررت بموقف صعب اقرأ سورة الواقعة سيسهل الله لك وتخرج من المطب». يذكر أول مرة قرأ سورة الواقعة حين كان يلعب «الاستغماية» وهو طفل، واختبأ عبدالحليم خلف جدار بيت مهدم بالقرية وكان باب البيت هو الشىء الوحيد الثابت على الأرض، وفجأة وقع الباب على صخرة، ووجد عبدالحليم ساقه محشورة بين الصخرة والباب؛ وأسرع إليه شقيقه إسماعيل شبانة ليحمله على حمار إلى الزقازيق؛ ليضع الطبيب ساقه فى الجبس. كان عبدالحليم يتوقع أن يضربه إسماعيل، لكن إسماعيل جلس يبكى بجانبه بعد أن وضع الطبيب قدم عبدالحليم فى الجبس.
وحين انفتح الستار عن عبدالحليم كالمطرب الأول فى الاحتفال الأول ب 23 يوليو؛ كان يفكر فى ألم مثل ألم وقوع الباب على ساقه. صحيح أن خلفه ستين عازفا هم أعضاء الفرقة الماسية التى نشأت وتكونت دون تفكير مسبق فى ذلك اليوم؛ وصحيح أيضا أنه يواجه أكبر تحد فى حياته؛ فلسوف يغنى بعده مطربون فى حجم محمد فوزى وليلى مراد وفريد الأطرش وعبدالعزيز محمود وكارم محمود، وسترقص سامية جمال ونعيمة عاكف، وسيلقى المنولوجات شكوكو وإسماعيل يس. لماذا لم يوجهوا الدعوة إلى تحية كاريوكا؟ تحية ذات الموقف النبيل والكريم معه؛ حين طلب منه المعلم صديق صاحب مسرح لونا بارك فى الإسكندرية أن يغنى أغنيات عبدالوهاب ورفض؛ وصعد إلى المسرح يومها ليغنى «صافينى مرة». لكن جمهور الصيف كان يدمن مطربا اسمه «حمامة العطار». وقد تعود جمهور المسرح أن يشاكس «حمامة العطار» وأن يتبادل معه السباب. وأراد المعلم صديق أن يبدأ الحفل ب «حمامة العطار»؛ وتمسك به الجمهور ودخل معه فى قفشات تتبعها موجات من السباب المتبادل. وحين أنهك الجمهور «حمامة العطار»، أراد المعلم صديق أن يقدم عبدالحليم شبانة. ولم يكن لعبدالحليم رأى فى ذلك. كان يحلم بالوصول إلى الجمهور. كان قد صدق رأى صديق عمره كمال الطويل فى أنه قد خلق للغناء. وكان قد وقف لسنوات خلف كبار المطربين ليعزف على الأبوا، ودرس خلف عبدالوهاب؛ لكنه راقب أم كلثوم ولم يقف وراءها فى الفرقة؛ ذلك أن أم كلثوم لم تتنازل عن التخت الشرقى فى العزف خلفها وهى تغنى؛ وكان يعلم أنها المطربة الوحيدة التى لا تغنى الكلمات بصوتها الجميل بلا ضفاف، بل هى أيضا تكاد أن تمثل الدور الذى تطلبه الأغنية، فهى مطربة تعلم كيف تقود خيال المستمع لها إلى مسرح المشاعر. درس أيضا فريد الأطرش وعبد الغنى السيد وكارم محمود ومحمد فوزى. درس عبدالحليم أسلوب كل واحد من هؤلاء؛ وصدق رأى كمال الطويل فى جمال صوته، وامتحن أمام أحد المؤسسين لمعهد الموسيقى مصطفى رضا، وغنى أمامه أغنيات عبدالوهاب وأغنية لأم كلثوم. وفوجئ باعتراض لجنة الاستماع على صوته، من خلال قول مصطفى رضا «إنت بتغنى غربى يا أستاذ عبدالحليم». كان عبدالحليم يظن أنه يقدم أغانى الكبار بسلاسة بدلا من التفاصيل المملة فى الغناء القديم. لكن مصطفى رضا لم يعجبه ذلك.
وحين خرج راسبا فى امتحان القبول كمطرب فى الإذاعة؛ سار فى الشارع على غير هدى. وانتبه إلى أن سيارة مسرعة تكاد أن تدهم رجلا؛ فأسرعت يده تجر الرجل من أمام السيارة. واكتشف عبدالحليم أن الرجل الذى امتدت له يده لشده بعيدا عن السيارة المسرعة هو مصطفى رضا رئيس لجنة الاستماع التى رفضته منذ قليل.
قال مصطفى رضا «أشكرك يا ابنى، أنقذتنى رغم أننا رفضنا أن نقيدك مطربا فى الإذاعة».
ضحك عبدالحليم فى وجهه قائلا له: أنا جريت أنقذ سيادتك؛ لأنى خفت أن يتطور الغناء.
وضحك الرجل وهو يكرر نصائحه لعبدالحليم أن يغنى غناء شرقيا لا غناء الخواجات. كان مصطفى رضا يرى أن البساطة فى الغناء هى غناء خواجات.
ولكن عبدالحليم يتقدم للامتحان مرة ثانية أمام لجنة استماع جديدة بناء على اقتراح من حافظ عبدالوهاب أحد رواد الإذاعة الأول، اللجنة مكونة من أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومحمد القصبجى ورياض السنباطى. استمعت أم كلثوم وقالت «الله». وانتشى عبدالوهاب وقال «أعد». وقال محمد القصبجى «مبروك». وقال رياض السنباطى «إنت مكسب للغناء».
ولكن لجنة الامتحان الأخرى التى كانت فى الإسكندرية على مسرح اللونابارك؛ فقد تكونت من الجمهور فى لحظة خشونة بدء نهاية حكم الملك فاروق وترهل الأحزاب السياسية التى تكالبت على حكم مصر بعد أن ترضى عنها سفارة إنجلترا، وكان الشارع والجمهور مزدحما بالرفض لما عليه حال الحياة المصرية، وضمن هذا الجمهور جاء المشاهدون لمسرح لونابارك الذى يقدم الترفيه للمصطافين. وكانت العادة عند هذا الجمهور هو تبادل السباب والدخول فى قافية مع المنولجست والمغنى حمامة العطار. وجاء عبدالحليم ليغنى بعده «صافينى مرة»، وهاج الجمهور وقذف عبدالحليم بالطماطم. وطلب منه المعلم صديق أن يغنى أغنيات محمد عبد الوهاب؛ فرفض عبدالحليم. قال له المعلم صديق: خلاص مالكش عندنا غنا. يا تسمع الكلام يا تروح.
وقرر عبدالحليم أن يروح. وناولته تحية كاريوكا خمسة جنيهات ليردها للمعلم صديق؛ وقررت ألا ترقص على هذا المسرح. وتعجب منها المعلم صديق، وقال عنها «مجنونة». نفس الكلمة قالها رجال الشئون المعنوية الذين أشرفوا على الحفل الغنائى الأول ل32 يوليو «مجنونة»، والسبب أنها ارتبطت عاطفيا بالضابط مصطفى كمال صدقى الذى كان حبيبا لناهد رشاد الوصيفة الأولى بقصر الملك فاروق، ولكنه تركها وأحب تحية كاريوكا. واعتقلته الثورة بتهمة أنه يتآمر على نظام الحكم، ولذلك لم ترقص.
الآن يغنى أمام جمهور مسرح الأندلس، وعلى الرغم من أنه أول المطربين إلا أن الحماس يبدأ والهدوء يسود. ولأول مرة يرى الجمهور أوركسترا تعزف خلف المطرب، وأمام كل منهم نوتة موسيقية مكتوبة . كان الجمهور قد تعود على أن يخرج المطرب ومعه راقصة يغنى لها؛ هكذا كان يغنى فريد الأطرش ومحمد فوزى وعبدالعزيز محمود. المشهد الآن قد اختلف. كانت الصديقة القريبة من قلب عبدالحليم هى الراقصة «ميمى فؤاد» وكانت تقول له: أريد أن أرقص وأنت تغنى. وكان عبدالحليم يقول لها «ياريت»، لكنه لم يكن يتصور نفسه مقلدا لفريد الأطرش أو محمد فوزى؛ وإذا كان قد رفض من قبل أن يقلد عبدالوهاب؛ فلن يقلد من يأتون فى المرتبة التالية له، وهو ليس أقل من أم كلثوم أو عبدالوهاب؛ ولن يغنى وأمامه راقصة. كانت الراقصة تقف خلف الكواليس؛ وتحضر الحفل لتشجيعه. كانت قد قررت أن تعتبره مشروع زوج المستقبل .كان عبدالحليم يرى أن الزواج مستحيل قبل أن يقف على أقدامه. لكن الراقصة لا تمل الحديث عن المستقبل. وكان يقول لها «إهدائى»، فتقول له: إن لم تتزوجنى سأفضحك وأقول أنك غاوى حب ومنظرة وكلام. وكان يضحك كثيرا لما تقوله الراقصة.
حب و منظرة وكلام .
«الحب» هو كلمات أى أغنية.
و«المنظرة» هى ترتيب شكل الفرقة التى تغنى خلفه.
و«الكلام» هو الرأى الذى سيقوله الجمهور بعد الحفل.
وغرق الجمهور فى الصمت. كانت الصالة يسودها نفس السكون الذى قالت له عنه خالته نعيمة «كان صوت جدك الشيخ شبانة لما ينشد فى المولد تسكت له الطير».

وحين نزل من على المسرح كان قد غرق فى العرق، وكانت أول من هنأته هى ليلى مراد، وكان أول من قال له «أنت مطرب الثورة من هنا ورايح'' هو وجيه أباظة المشرف على إعداد حفل عيد الثورة الأول.

وكان مسرح الأندلس عام فى يونية 1964يشهد وقوفه أمام شادية ليمثل القصة التقليدية لشاب أحب مطربة مشهورة؛ لكنها لم تلتفت له؛ إلى أن صار هو مطربا مشهورا؛ ونجح فى الغناء. ولم ينس من أحبها فى الزمن الأول.
أما عبدالحليم فى ذلك الوقت فلم يكن يعرف ترتيبا لمن قال لهن كلمة «أحبك» هل هى الراقصة؟ أم بنت الجيران فى أيام الزقازيق بجانب بيت خاله؟ أم هى بنت الذوات التى عانت من التهاب فى الغشاء المحيط بالمخ؟ أم هى سعاد حسنى التى وعدها أن يرسل لها سائقه عبد الفتاح ليتناولا العشاء مع كامل بك الشناوى فى كافتيريا نايت أند داى بفندق سميراميس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.