تمر الأمم أحيانا بلحظات فارقة تشبه انشقاق الفجر بعد ليل طويل ، فتولد روح جديدة وتبدأ دورة مختلفة من التاريخ. ومصر اليوم تقف عند واحدة من هذه اللحظات. لسنا أمام مشاريع متفرقة أو خطوات معزولة بل أمام تحول شامل في بنيان الدولة وروح المجتمع. نحن أمام دولة تتحرك بثبات وشعب يشارك بوعيه وإصراره في كتابة صفحة جديدة لا تبدو فيها العودة إلى الوراء خيارا واردا مهما كانت الضغوط أو التحديات. إن ما يحدث في مصر ليس تجميلا لشكل خارجي ولا مجرد إصلاحات تسعى لتسكين الألم. ما يحدث هو عملية إعادة بناء كاملة في الفكر والإدارة والاقتصاد والعلاقات بين الدولة ومواطنيها. التغيير الذي نراه اليوم ليس وليد أشهر أو قرارات مفاجئة بل نتيجة مسار بدأ قبل سنوات يقوم على القناعة بأن البقاء في نفس النقطة كان يعني الخروج من سباق عالم لا يعترف إلا بمن يملك شجاعة المبادرة وسرعة الحركة وقوة الرؤية. ولعل أجمل ما في هذه المرحلة أن الشعب لم يعد متفرجا على ما يجري حوله بل أصبح جزءا من المشهد. في الشارع وفي مواقع العمل وفي القرى التي تغير وجهها وفي المدن الجديدة التي تشكل ملامح عصر مختلف ترى المصري يتحرك بثقة ويسعى ليكون شريكا في صناعة المستقبل لا مجرد متلق لنتائجه. أصبح المواطن يشعر أن ما يبنى اليوم هو ملكه وامتداده وحق أبنائه لا مباني هندسية بلا روح. لقد تغيرت قناعة الناس تجاه مفهوم الدولة نفسها. لم تعد الدولة مجرد جهة تقدم خدمات ولا مجرد مؤسسة تلجأ إليها عند الحاجة بل أصبحت مشروعا وطنيّا كبيرا يتطلب مشاركة وعملا ووعيا وصبرا. هذه الروح الجديدة داخل المجتمع هي التي تمنح التغيير قيمته الحقيقية لأنها تحوله من خطط رسمية إلى ثقافة عامة تمتد وتترسخ. وعلى مستوى الواقع يلمس الجميع حجم الحركة غير المسبوقة: شبكات طرق وموانئ ومناطق لوجستية تُغير خريطة التجارة والتنقل بنية تحتية تُهيئ لاقتصاد جديد قادر على المنافسة إعادة بناء للمدن والقرى بما يليق بكرامة الإنسان استثمارات في الطاقة تجعل مصر لاعبا محوريا في واحدة من أهم معادلات المستقبل. من يمر على مواقع العمل المنتشرة في ربوع البلاد يدرك فورا أن الدولة اختارت ألا تعيش على هامش التحولات العالمية بل أن تصنع لنفسها موقعا يصعب تجاوزه. وفي قلب كل هذا يقف قطاع الطاقة كأحد أبرز الأدلة على هذا التحول. فمصر اليوم تتحرك بثبات تجاه أن تكون مركزا إقليميًا للطاقة تجمع بين الغاز التقليدي ومشروعات الهيدروجين الأخضر والربط الكهربائي والتوسع في الطاقات النظيفة. هذا المسار ليس مسارا اقتصاديا فقط بل سياسي واستراتيجي يعزز مكانة الدولة في محيطها ويمنحها قوة تفاوضية لم تكن تمتلكها بهذا الحجم من قبل. التغيير الذي نراه اليوم ينسحب كذلك على وعي المواطن. فهناك جيل جديد ينشأ على قيم مختلفة؛ جيل يعرف أن النجاح ليس ضربة حظ بل رحلة عمل ، وأن الدولة ليست كيانًا بعيدًا عنه وأن مستقبله مرتبط بما يقدم لا بما يحصل عليه. لم يعد هذا الجيل يبحث فقط عن من يوفر له الفرصة بل بات يسعى ليصنع فرصته بيده ويؤمن بأن النجاح الجماعي هو الطريق الوحيد لبلد يريد أن يكتب لنفسه مكانا محترمًا في زمن لا يرحم الضعفاء. وفي وقت يتغير فيه العالم بسرعة غير مسبوقة وتتصارع فيه القوى الكبرى لإعادة ترتيب موازين النفوذ تدرك مصر أن التردد يعني الخسارة وأن البطء يعني التخلف. لذلك تسير الدولة بخطة واضحة لا تتوقف عند المعوقات ولا تلتفت إلى الأصوات التي تحاول جرها إلى الخلف. فالمشهد العالمي يثبت كل يوم أن الدول التي تنتظر الظرف الملائم لا تتقدم بينما الدول التي تصنع ظرفها هي التي تفرض وجودها. ومهما اختلفت الآراء حول تفاصيل المشهد تبقى الحقيقة الواضحة أن مصر اليوم ليست كما كانت بالأمس. هناك تغيير في الأرض وتغيير في الوعي وتغيير في شكل الإدارة وتغيير في طموحات الناس. والمرحلة التي نعيشها اليوم ليست مجرد فترة انتقالية بل فترة تأسيس حقيقية تُعاد فيها صياغة الدولة الحديثة على أسس جديدة قوامها العمل والقدرة والاستمرارية. إن ما يميز هذه اللحظة هو أن الطريق أصبح مفتوحا ليس لطموح الدولة فحسب بل لطموح المواطن أيضا. لم يعد السؤال: هل نستطيع؟ بل أصبح: كيف نصل؟ ولم يعد الخوف من المستقبل هو المسيطر بل الرغبة في اللحاق به وصناعته. ومهما كانت التحديات فإن الروح العامة تشير إلى أن مصر تسير في الاتجاه الصحيح وأن العودة للخلف لم تعد واردة في حسابات الناس قبل حسابات الدولة. وفي النهاية يمكن القول إن مصر اليوم لا تُصلح ما فسد فحسب ولا ترقّع ما تهدم بل تبني مرحلة جديدة بمعنى الكلمة. دولة تتغير في كل شيء: في هياكلها، في إدارتها، في سياستها، في اقتصادها، في وعي مواطنيها. وشعب يكتب بجهده وتعبه وصبره ملامح مرحلة لا تشبه الماضي ولا تسمح بالعودة إليه. إن الأمة التي مرت بكل ما مرّت به مصر ووقفت على قدميها مرة بعد مرة ورفضت أن تُهزم أو تنكسر هي أمة تستحق مستقبلا أكبر من كل التحديات. وما نراه اليوم ليس آخر الطريق، بل بدايته الحقيقية. فالمشهد الذي يتشكل الآن هو مشهد دولة تعرف قيمتها وشعب يعرف قدره ووطن يقرر أن يكتب بيده قصة جديدة تصمد أمام الزمن.