لم تكن صحيفة الأهرام بالنسبة لي مجرد مؤسسة صحفية عريقة، بل كانت المدرسة الأولى التي تشرّبت فيها معنى الصحافة، وتعلمت على أرضها أصول المهنة قبل أن تطأ قدماي قاعات التحرير الحديثة أو برامج ما بعد التخرج. كانت البداية وأنا طالب في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حين اصطحبني صديقي ورفيق العمر منذ الابتدائية وحتى الثانوية، جمال الصباغ، إلى مكتب قريبه المفكر الكبير الدكتور مصطفى عبد الغني، رئيس القسم الثقافي آنذاك. كان اللقاء الأول معه مختلفًا تمامًا عن أي توقعات لشاب لم يبدأ بعد خطواته المهنية؛ فقد استقبلني الرجل بترحاب أبويّ لم أعهده من قبل، ثم أصبح — من دون مبالغة — الأب الروحي لي ولجيلي كله، ومن بينهم: هاني لبيب (رئيس مجلس إدارة مبتدأ حاليًا)، ود. حسام الهامي الذي ترك المهنة لاحقًا واتجه إلى الأكاديمية… وغيرهم ممن تفتح وعيهم في مدرسة "الصحافة الثقافية" بالأهرام. الدرس الأول… "لا تنتقد كتابًا قبل أن تقرأه" كانت هديته الأولى لي كتابًا من تأليفه بعنوان "المثقفون وعبد الناصر"، وطلب مني تلخيصه. كان ذلك أوّل درس صحفي حقيقي: لا تكتب قبل أن تفهم، ولا تنتقد قبل أن تقرأ، ولا تحكم قبل أن تلخّص أهم أفكار النص. هذا الدرس أصبح فيما بعد قاعدة أرددها لطلّابي في الدراسات العليا: أول مراحل البحث العلمي تبدأ من مكتبةٍ أو من بنك المعرفة… ومن تلخيص مرجع واحد بإخلاص. الأهرام الدولي… نافذة أخرى للتعلّم وعندما صدرت الطبعة الدولية للأهرام في لندن، كان الدكتور مصطفى عبد الغني يشرف على صفحتها الثقافية، إلى جانب عمله في الأهرام اليومي، في فترة أشرف فيها على النسخة برئاسة تحرير الأستاذ إبراهيم نافع، الكاتب الكبير صلاح الدين حافظ ومن خلال هذه الفترة تعلمنا كيف نُصفّ الحروف في مطبعة الأهرام القديمة، وكيف تُراجع البروفات، وكيف نغوص في أرشيف الطابق الخامس بحثًا عن تاريخ كل شخصية قبل إجراء مقابلة معها. في تلك السنوات المليئة بالاكتشافات، تعرفت على المفكر اليساري محمد سيد أحمد، الذي أرانا نوعًا آخر من الكتابة: كيف تكتب مقالًا ممنوعًا دون أن يُمنع. كيف تقول الكثير بين السطور، وتُمرّر وعيًا من دون صدام مباشر. صالة تحرير… لا تهدأ كانت الأيام هناك تمتد من الواحدة ظهرًا حتى الواحدة بعد منتصف الليل، بلا كلل أو تعب، لأن الصالة كانت جامعة حقيقية لا يشبهها أي معهد إعلام. قبل عصر الكمبيوتر، كان كل شيء يتم يدويًا: ورق "الدشت" الأصفر مديرو الديسك المركزي المراجعون رؤساء الأقسام ونوابهم قسم التصوير الذي يرسل صورًا مطبوعة وبروفات الصفحات تُحمل بين الأيدي كان نظامًا تقليديًا صارمًا… لكنه علّمنا الدقة، والمسؤولية، واحترام المعلومة. في كافتيريا الأهرام، على وقع فناجين القهوة وباتيه من يد عم كيني رحمه الله، كنا نتعلم الجانب الإنساني في الصحافة: الاستماع، والمعايشة، وفهم الناس… فالصحافة لا تُكتب فقط من وراء مكتب، بل من قلب العلاقات اليومية بين البشر. في ممرات المؤسسة، قد تصادف الدكتور بطرس بطرس غالي، أمين عام الأممالمتحدة السابق بعد أن ترك منصبه، أحد كتاب الأهرام الكبار. و الفنان سمير صبري بصحبة الفنان سعيد عبد الغني رئيس القسم الفني بالاهرام. أو أنيس منصور، الذي حين طلبت موعدًا لمقابلته قال مدير مكتبه نبيل. الأستاذ مشغول جدا لا وقت لديه ..حتى توسط لي الدكتور مصطفى عبد الغني لتحديد موعد مع الأستاذ فى مكتبه.. وحين التقيته أخيرًا بعد محاولات طويلة، قدّم لي أول نصيحة ذهبية: (اكتب السهل الممتنع… اكتب ما يفهمه الجميع ولا يقدر على كتابته إلا القليل). أما الأستاذ فهمي هويدي فعندما طلبت موعدا منه قال لي ينشر مقالى يوم الثلاثاء… فإن لم يُمنع فتعال، وإن مُنع سوف اجلس في البيت!".. مدرسة لا تنتهي لهؤلاء جميعًا، ولتلك الأيام التي صنعت وعينا، ول"الأهرام" التي كانت — وما زالت — مدرسة عظيمة من لحم ودم، أقول: إن كل من يشكك اليوم في قيمة هذه المدرسة العريقة، لا يعرف كيف كانت — ولا كيف ستظل — موطنًا لصناعة الوعي وتخريج الأجيال. لقد تعلمنا هناك أن الصحافة ليست مهنة فقط، بل رسالة ومسؤولية وامتداد للروح الإنسانية.. الأهرام… لم تكن مجرد مؤسسة. كانت حياة كاملة.