النضج ليس مرحلة عمرية، بل إنه في الأساس مرحلة فكرية، فيها تتغير الأفكار والأحاسيس وأيضًا الأهداف، فنحن في مقتبل حياتنا تكون أهم أهدافنا وأحلامنا الوصول إلى السعادة، وأن نكون الأوائل في كل شيء، فالمقارنة دائمًا تخاطبنا، بل وتسيطر علينا، ففي أغلب الأحيان ننشغل بالآخر، لأننا نريد أن نسبق الجميع، ونثبت أننا الأفضل دائمًا، فصراعات الحياة تكون لها الكلمة الأولى لدينا، ربما لأننا نستشعر حينها أن الروح تدب في قلوبنا، وأن هناك هدف نسعى إليه، يجبرنا على التواصل والاستمرارية، ونظل هكذا نتعايش مع الأيام بين الصعود والهبوط، بين الأمل واليأس، بين الاستسلام والعناد، إلى أن نصل إلى مرحلة نأمل فيها شيء واحد ألا وهو راحة البال والسكينة، فهذه اللحظة لا تعني الزهد في الحياة، أو رفضها أو الاستسلام لمُقدراتها، بل على العكس، تطل روح الأمل بداخلنا، ونظل نبحث عن النجاح والسعادة، ولكن دون صراع مع أحد، ودون مُقارنة مع الغير، فتكون المُقارنة مع النفس، والصراع مع العقل، من أجل الوصول إلى الاستقرار النفسي والأمان الذهني، وهذا هو النضج. فعندما يتصالح الإنسان مع نفسه، ويعرف ماذا يريد، يجد نفسه في حالة من الهدوء والسكينة، فلا يبالي بالآخرين، ولا يعبأ بآرائهم في شخصه، أو في شكل حياته، لأنه لا ينافسهم في قرارة نفسه، ولا يقارن بينهم وبينه، فهو لا يركز سوى في أموره ليس بمعنى النرجسية والأنانية، بل بقصد الإكتفاء الذاتي عدم التدخل في شؤون الآخرين والانشغال بأحوالهم، فيكون الإنسان في حالة تشبع، لدرجة أنه لا ينظر إلى ما يملكه الآخرون، فيكون هدفه الأول والأخير إصلاح نفسه، ووضعها في حالة من الاستقرار والهدوء، فهذا هو النضج، والحقيقة أنه ليس وليد المراحل العمرية، فهو وليد حالة ذهنية متحضرة، بدليل أننا كثيرًا ما نرى أشخاصًا كبار في السن، ولكنهم يفتقرون إلى هذا النضج، والعكس صحيح، فالتصالح مع النفس والتركيز مع الذات، والرغبة في التعايش بهدوء وروية يستأهل حدوث طفره فكرية، وتغيير في القناعات، ووضع مجموعة من القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية يسير الإنسان على هداها حتى يُدرك أن هناك ما هو أفضل من تحقيق الأفضلية، وأهم من التعايش على التنافسية، وأعلى من الصراعات البشرية. فإذا ما وصل إلى هذه الحالة الذهنية من الراحة النفسية، فهو بلا شك يستحق أن يُطلق عليه وبجدارة مصطلح "إنسان ناضج"، وبالتبعية ستنسحب هذه الأفكار تلقائيًا على سلوكياته وقراراته وأحاسيسه، وهكذا سيتحقق النضج العقلي والذهني والعاطفي، الذي يضع صاحبه في المُقدمة دون حاجة إلى الدخول في صراعات ومُنازعات ومعارك حياتية.