حين صعد جورج خباز على مسرح محمد الخامس في الرباط لتسلم تكريمه في الدورة الثلاثين لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف (8 - 14 نوفمبر 2025)، بدا المشهد أكبر من احتفاء بفنان.. كان احتفاءً بمفهومٍ للفن ذاته، الفن الذي لا ينفصل عن الإنسان، الذي يحمل صدقًا يشبه النور حين يتسلّل من بين حطام عالمنا القاسي هذا، ليذكرنا بأن المسرح ما زال قادرًا على التغيير. من الخشبة اللبنانية إلى الشاشات العربية والعالمية، من وجع الطائفية إلى الأمل ولو في ضحكة الجمهور، يمشي جورج خبّاز بخطى ثابتة فوق جسرٍ من المعنى، جامعًا بين الهشاشة والقوة، بين المحلية والعالمية. جورج الذي وُلد في بيتٍ تتنفس جدرانه الشعر والمسرح، والده الفنان جوزيف خباز ووالدته الفنانة أوديت عطية، بدأ مشواره في المسرح الجامعي، حتى صار الممثل والكاتب والمخرج المسرحي والمنتج والأستاذ الجامعي.. مسيرة مهنية حافلة وممتدة على مدى نحو 25 عامًا وربما أكثر قليلا. جورج الشاعر الذي قام بتأليف عدة أغاني ومقطوعات موسيقية، حينما قابلته هذه المرة في الرباط ضبطت نفسي وضبطني هو أيضا أدندن "كبرت البنوت" ، مع أن له أغنيات أخرى مؤثرة، لكن هذه سيطرت علي في هذه اللحظة، بدون سبب واضح، ولا أريد أن أفتش عن أسباب، سوى أنها سردية حقيقية عن هذه البنوت التي " ربيت بدموع العينين.. بالنقد والدين"، التي يغني لها أبوها بطريقة توازن بين الشجن والاحتفال، ربما يراها البعض أقل جرأة من أغانيه التي تعالج قضايا اجتماعية وسياسية أخرى، لكنها بصوت جورج الخافت، الأقرب إلى الهمس، الحنو والارتباك في آن واحد، تخاطب فينا ذلك الجزء الذي يقاوم الفقد، إنه لا يقدم أغنية بقدر ما يكتب مشهدا إنسانيا موسيقيا، لدى جورج هذا الشغف بالتعامل مع القضايا الإنسانية. تتضمن قائمة أعماله أفلام مثل "غدي"، "تحت القصف"، "سيلينا"، "أصحاب ولا أعز"، "يونان" فيلمه الأحدث من إخراج أمير فخر الدين، سيعرض قريبا في مهرجان البحر الأحمر. بينما تتضمن مسلسلاته: "عبدو وعبدو"،"براندو الشرق" ،"نار بالنار"، هذا غير ما يقرب من 18 مسرحية كلها تحمل بصمته الخاصة. لم يكن المسرح عنده مهنة، بل هوية، ربما رأى فيه وسيلة لتطهير الوجدان الجمعي، ووسيلة للمصالحة بين المواطن ونفسه، لهذا قال ذات مرة:"الضحك فعل مقاومة حين يُوجعنا الواقع". في مسرحياته الشهيرة ومنها: "إلا إذا، علّقوا المشانق، مش مختلفين"، استطاع خبّاز أن يخلق مدرسة لبنانية في الدراما الساخرة، تمزج بين النقد الاجتماعي والشاعرية. في أعماله لا نضحك هربًا من الواقع، بل نضحك كي نراه أوضح. شخصياته تشبه الناس في الحارات والمقاهي والبيوت القديمة، أناس يواجهون القهر بالسخرية، ويحتفظون بالكرامة رغم كل الانكسارات. هكذا تحول خباز من "مؤدي مسرحي" إلى ضمير فني يعبّر عن الطبقة المتعبة التي تبحث عن معنى لحياتها وسط ضجيج السياسة والعنف الذي يحاصر واقعنا البائس. في السينما، لم يتخل جورج خباز عن صدقه، بل وسّعه. مثلا في فيلم "غدي" (2013) إخراج أمين درة، كتب ومثّل حكاية طفل يوقظ إنسانية قرية بأكملها، وفي "أصحاب ولا أعز" (2022) إخراج وسام سميرة، شارك في تقديم مرآة لعلاقات الحبّ والخذلان بمجتمع غير مستقر، لعله كان أفضل الأدوار تجسيدا. أما فيلمه الأحدث "يونان" (Yunan، 2024) إخراج أمير فخر الدين، فيكشف عن بعدٍ جديد في شخصيته الفنية: الصمت كأداة تمثيل. في هذا العمل، يجسّد وجع المهاجر العربي الذي يعيش بين الحنين والخوف، محوّلًا الأداء إلى لغة شعرية بصرية جعلت النقاد الأوروبيين حين شاهدوه في مهرجان برلين، يصفونه بأنه "ممثل من الشرق يعبّر بنظراته عن قارة من الحكايات". ما يميز جورج خباز أنه منح فنه عمقًا سياسيًا بغير صخب، محترما عقل الجمهور. إنه لا يرفع لافتة، لكنه يضع الأسئلة على الطاولة عن الإنسان، الوطن، الهوية، الحب، الكرامة. تكريم جورج خباز في الرباط في مهرجانها السينمائي المنعقد حاليا، لم يكن حدثًا فنيًا فحسب، بل حدثًا ثقافيًا يعد من جسور التواصل التي توحّد بين المشرق والمغرب. من هذه النقطة، فإننا بصدد فنان يعرف كيف يوازن بين الانتماء والانفتاح. يحمل لهجته اللبنانية بفخر، لكنه يجعلها مفهومة عالميًا. لعل هذا ما يفسر ببساطة جماهيريته التي رسخته جسرًا بين المسرح الشعبي والمسرح المفكر. نعم يضاف تكريم مهرجان الرباط إلى قائمة تكريماته وجوائزه الثقيلة، لكن يظل أنه حين ننظر في عيني جورج خبّاز، نرى ممثلًا لا يؤدي دورًا بل يعيش حياة. الفنان الذي جعل الضحك فلسفة، والبساطة جمالًا. الصوت الباحث عن معنى في زمن التيه.