فى زمن تتكاثر فيه الخطابات المتشنجة وينهض فيه العنف كظلّ ثقيل على العالم، يعود مهرجان الناظور الدولى للسينما والذاكرة المشتركة فى دورته الرابعة عشر ليطرح سؤالًا صريحًا: هل ما زالت السينما قادرة على حماية الذاكرة وصياغة مستقبلٍ أكثر سلامًا؟ من قلب مدينة الناظور الواقعة على بوابة المتوسط والريف المغربى، تتجدد هذه التجربة السينمائية-الفكرية الاستثنائية ما بين 15 و20 نوفمبر 2025، مستندة إلى رؤية تؤمن بأن الفن ليس رفاهية، بل فعل حرية وحق فى التخيّل ومساحة رحبة ينحو فيها الإبداع صوب عالم أكثر عدلًا وإنسانية. ينطلق مهرجان الناظور الدولى للسينما والذاكرة المشتركة فى مدينة الناظور، شمال-شرق المغرب، وهو مهرجان مُعَبَّرٌ يجمع بين الفنّ السينمائى وقضايا الذاكرة والحقوق والهوية، ينظمه مركز الذاكرة المشتركة للديمقراطية والسلام (CMCDP)، هيئة مجتمع مدنى تهدف إلى تعزيز ثقافة السلام، حقوق الإنسان، والتداول فى مسألة الذاكرة الجماعية، منذ إصداراته الأولى، اختار المهرجان أن يكون منصّة سينمائية، وكذلك محفلًا نقاشيًا-فكريًا، يجمع صناع أفلام، باحثين، ناشطين، ومدافعين عن حقوق الإنسان من المغرب وخارجه. أتصور أن اختيار الناظور ليس مجرد تفصيل جغرافى أو انتقاء لبقعة ما بالصدفة، فالمدينة التى تقف بين البحر وجبال الريف تحمل طبقات من تاريخ الهجرة والحدود والاختلاط الثقافى، ما يؤكد مكانتها كجسر بصرى وثقافى يربط المغرب بعمقه العربى والمتوسطى وما يجعلها فضاءً طبيعيًا لطرح أسئلة الذاكرة المشتركة والعدالة والتعايش. هنا، لا تتحوّل السينما إلى عرض بصرى فحسب، بل إلى مرآة لماضٍ مشترك ومستقبل قيد البناء. يحمل المهرجان هذا العام شعار "ذاكرة السلام"، فى محاولة لاستعادة قيمة باتت مفقودة فى عالم يزداد اضطرابًا. ليس السلام هنا مجرد كلمة تُرفع فى مراسم الافتتاح، بل موضوع بحث ومسائلة، يمرّ عبر أفلام وندوات وشهادات إنسانية تسعى لفهم العلاقة بين الذاكرة والتصالح، بين الألم والتحول. تتضمن البرمجة نحو عشرين فيلمًا روائيًا ووثائقيًا من المغرب والعالم، تتناول قضايا العدالة الانتقالية، التهجير، الهوية، والتاريخ المشترك بين الشعوب. السينما هنا ليست حكاية تُروى، بل جسر نحو فهم ما لم يُقل، وإضاءة على أصوات ظلّت طويلًا على الهامش. كما تُسجّل هذه الدورة لحظة احتفاء بفكرٍ ورؤية إنسانية من خلال تكريم شخصيات بارزة ساهمت فى ترسيخ قيم السلام والمعرفة والثقافة. ويأتى ضمن ذلك تكريمًا لشخصيات عربية ومغربية، كإعلان رمزى عن مسؤولية حفظ الذاكرة تجاه من صنعوا ثقلها الأخلاقى، من بينها الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، عبر مشاركة ثقافية استثنائية تعكس التقاء الشعر بالسينما فى فضاء واحد، ما يمنح الدورة بُعدًا ثقافيًا رحبًا يتجاوز الفعل السينمائى إلى إحياء علاقة الفن بالأدب والإنسان. لا يُختزل المهرجان فى عروضه فقط، بل إنه أيضًا يفتح فضاءات للنقاش والبحث عبر ندوات فكرية، بإشراف مركز الذاكرة المشتركة للديمقراطية والسلام. هذه الندوات تشكل قلب المشروع، إذ تتناول مفاهيم المصالحة والهوية والعدالة من منظور ثقافي-حقوقى، وتضع الفنان فى موقع الشريك فى صناعة الوعى لا المتفرج. رغم أهميته، يقف المهرجان أمام تحديات تتعلق بتكثيف حضوره الدولى وجذب جمهور أوسع، فى مدينة لا تزال فى طور تعزيز بناها الترويجية والثقافية. لكن قوته تكمن فى خصوصيته: فهو ليس مهرجانًا تجاريًا، بل تجربة فكرية-سينمائية تؤمن بدور الفن فى بناء الجسور وإصلاح الشروخ التى تركها التاريخ والسياسة. من هذه النقطة يشكّل مبادرة ثقافية ذات وقْع اجتماعى وفنى، ليس فقط لعرض أفلام، بل لتعميق علاقة السينما بالذاكرة والهوية والمجتمع. موقعه فى الناظور يُحيل إلى إرادة جعل السينما أداة تنشيط ثقافى وإقليمى وليس فقط ترفيهًا. وإذا ما تمّ استثمار الفرص التى يوفّرها هذا المهرجان، يمكن أن يحتلّ موقعًا أرفع بين ملتقيات السينما المتخصّصة فى المنطقة المغاربية والمتوسطية. خصوصًا أننا نشهد كيف تتكاثر المهرجانات بقدر ما تتناقص الأسئلة النقدية حول جدواها، لعل هذا يجعلنا ننتبه إلى مهرجان الناظور بوصفه نموذجًا لمشروع ثقافى يسعى إلى ترسيخ حضورٍ سينمائى حقيقى، ويجعلنا كذلك نشعر بالتجربة المحمّلة بتحديات لا يمكن التغافل عنها: من ضرورة توسيع قاعدة الجمهور وتعزيز النقاش الفكرى، إلى تطوير استراتيجيات دعم الأفلام على نحو يرسّخ الاستمرارية. وبين ما تحقّق وما هو مؤجل، تبقى الأسئلة مفتوحة حول موقع المهرجان فى خريطة السينما العربية، ومدى قدرته على التحول من مناسبة فنية إلى منصة تأثير ثقافى مستدام. على ضفاف الأسئلة تأتى دورة هذا العام من مهرجان الناظور الدولى للسينما والذاكرة المشتركة، بتصور طموح ودعوة إلى استعادة معنى "ذاكرة السلام" فى زمنٍ مثقل بالندوب. فى الناظور، يبدو أن السينما تتجاوز كونها شاشة مضيئة لتصبح فعل طموح، وممارسة جماعية لحماية الذاكرة من النسيان، وتخيّل عالمٍ لا ينتصر فيه العنف على الحكاية، ولا تُدفن فيه التجارب تحت تراب الصمت. فى هذه المدينة المتوسطية، يُكتب فصل جديد من علاقة الفن بالإنسان، ومن سيرة الذاكرة حين تُصبح بوابة نحو غدٍ أكثر إنصافًا، وأكثر قدرة على الحلم.