"الآن أشعر بالرضا الوافر.. الآن أشعر بالسعادة الغامرة، وغاية ما أتمنى أن يتمسك الجيل الذي رأى تلك الحالة الوطنية الاستثنائية بما لديه من أحلام وأن يستظل بمفردات الهوية المصرية التي من دونها نتوه بين الأمم وأن ينقل تلك الروح إلى ما بعده من أجيال قادمة ، فبهم يتجدد شباب مصر وبأحلامهم تظل دوما سامقة". بهذه الكلمات عبر فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق عن رضائه وامتنانه وفرحته وهو يرى أمام عينيه حلمه الذي تمسك بتلابيبه وركض خلف شاراته أصبح واقعا وهو بنفسه يشارك في حفل الافتتاح تقديرا وإنصافا له على الدور الذي أداه لانجاز أكبر متحف لحضارة واحدة في العالم. كان أكثر الناس فرحا وسعادة بالمتحف المصري الكبير.
خلف هذه الكلمات الممزوجة بالدموع والحنين، كان هناك شريط حياة يمر سريعا أمام عينيه ويقفز الى جدران ذاكرته قادما من بعيد هناك حتى لحظة الحلم.
على شاطئ البحر المتوسط ومن نافذة قصر ثقافة الأنفوشي وقف المدير الشاب فاروق حسني عام 67 يمد ببصره ويتمنى عبوره الى الضفة الآخرى، حيث أوروبا (تحديدا إيطاليا) التي يحلم بدراسة أعمق لفنونها القديمة والحديثة في عصور النهضة وينقل ما تعلمه من خبرات إلى وطنه الذي يستحق نهضة ثقافية وفنية جديدة.
لم تمر سوى 15 عاما حتى أصبح الشاب فاروق حسني مديرا للأكاديمية المصرية للفنون بالعاصمة الايطالية روما ولمدة أربعة أعوام استكشف وأطلع من خلالها على تفاصيل وأسرار النهضة الفنية والثقافية في حلتها المعاصرة وارتبط بعلاقات واسعة مع المجتمع الثقافي الأوروبي. بعدها يعود لمصر ويتولى مسئولية وزارة الثقافة وعمره 49 عاما.
فاروق حسني من مواليد 1938 بالإسكندرية، حصل على بكالوريوس الفنون - قسم الديكور من جامعة الإسكندرية. وهو أحد أبرز الفنانين التشكيليين المعاصرين في مصر.
تولى وزارة الثقافة لحوالي 24 عاما حتى 25 يناير 2011 ليصبح أكثر وزير يتولى الوزارة لفترة طويلة. مر خلالها بمراحل عصيبة وأيام حلوة، تعرض لحملات انتقادات طالت سمعته الشخصية وتعرض لظلم كبير، لكن بعد رحيله عن الوزارة وتفرغه لفنه ومتحفه اعترف من هاجموه وانتقدوه بإنجازاته الثقافية وبصماته الابداعية وبأنه "صانع العصر الذهبي للثقافة المصرية" التي لم يسبقه إليها سوى المؤسس الأكبر للثقافة في مصر ثروت عكاشة. كان لديه أحلام كبيرة لاستعادة الثقافة المصرية لدورها الريادي كقوة ناعمة كبرى في محيطها الإقليمي وفي العالم أيضا. ومن بين هذه الأحلام إنشاء المتحف المصري الكبير..!
الحكاية بدأت عندما كان فاروق حسني يزور المتحف المصري في التحرير. انتابه إحساس بالإحباط والحزن بسبب حاله الذي يرثى له والتكدس الذي بات يعاني منه.
كان دائما يرى أن المتحف القديم قد أدى دوره على أكمل وجه في خدمة الآثار والثقافة المصرية منذ افتتاحه عام في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1902 ويصبح أقدم متحف أثري في الشرق الأوسط وأحد المعالم التاريخية والسياحية بالقاهرة، لكنه الآن لم يعد يناسب تطورات العصر الحديث والاكتشافات الأثرية المتتالية. فأصبح مكتظا للغاية بالقطع الأثرية بما لايسمح أن يراه الزوار بالشكل الذي يناسب القيمة الحضارية والآثرية والجمالية التي تتناسب معه.
شعر فاروق حسني بالحيرة وكان يسأل نفسه: "وماذا نفعل أمام هذه المشكلة وكيف يمكن حلها في ظل صعوبات الترميم ونقل التماثيل الكبيرة إلى مكان آخر.
ومثلما قال ذات يوم وبالصدفة من آلاف السنين مكتشف قانون الجاذبية أرشميدس وصرخ: "وجدتها ..وجدتها"، كانت الصدفة التي بلورت الحلم بداخله لانشاء متحف كبير ضخم يستوعب الحضارة والثقافة المصرية المتجذرة في عمق التاريخ. أثناء وجوده في مهمة عمل في باريس وأثناء لقاء حضره رئيس معهد العالم العربي بالعاصمة الفرنسية وصديق مشترك هو معماري إيطالي شهير وواحد من أشهر الناشرين وبينما كانوا يتناولون الغداء دعاه إلى زيارة المتحف المصري بالتحرير، فبادره المعماري الايطالي قائلا: "متحف التحرير..؟ تقصد المخزن هتعملوا فيه إيه..؟؟).
كان التعبير ووصف المتحف بالمخزن صادما ومؤلما لفاروق حسني. لم تمر الجملة مرور الكرام على فاروق حسني، بل اخترقت وجدانه وحرّكت في داخله الإحساس بالمسؤولية تجاه تراث بلاده الذي يستحق عرضًا يليق بعظمة التاريخ المصري. بادر حسني صديقه الإيطالي بسرعة: "سنبني متحفا جديدا كبيرا سيكون أكبر متحف في العالم". قالها دون أن يدري هل كان متعجلا أو متسرعا في الرد . وكيف سمح لنفسه كوزير أن يصرح بهذا الأمر دون الرجوع للقيادة السياسية ودون أن يكون لديه تصور أو خطة بالحلم الجديد الكبير.
فوجئ فاروق حسني بصديقه المعماري الايطالي يقول له: "إذا كان الأمر كذلك فسوف أوفر لكم تمويلا من رئيس وزراء إيطاليا".
من هنا كانت البداية وحمل فاروق حسني الأمانة والمسئولية والحلم فوق كاهله وعرض الأمر على الرئيس مبارك الذي قال له "ومن أين سنأتي بالفلوس.. ليس لدينا أموال لمثل هذا المشروع الضخم حاليا..؟" رد وزير الثقافة بابتسامة ثقة: " لا تخف سيادة الرئيس، مصر لها رصيد وثقل لدى دول العالم وستحصل على الدعم والمعونة اللازمة لتحقيق الحلم..حضرتك وافق، وسيأتي التمويل من العالم كله... فمصر لا تُرفض لها يد العون إذا كان الهدف هو حماية تراثها العظيم."
وافق مبارك على مضض. وبدأت آلة الحلم المعجزة المصرية الحديثة لصناعة في الدوران. بدراسة جدوى بتكلفة 4 ملايين دولار قامت بها ايطاليا وشملت كل شيء وتبع ذلك إطلاق مسابقة للتصميم وجاء حوالي 1557 بيت عمارة وتشكلت لجنة دولية للبت في المشاريع مكونة من ممثلين للجمعية المعمارية الدولية واليونسكو ووزارة الثقافة إلى أن تم اختيار التصميم.
تحول الحلم إلى خطة، والخطة إلى عمل، ويولد المتحف المصري الكبير عند أقدام الأهرامات، في حضن الزمن، يجمع بين الماضي البعيد والمستقبل المشرق، بأروع ما أبدع الإنسان المصري من فن وعلم وهندسة استمده من أجداده المصريين القدماء.
ودارت عجلة العمل والتنفيذ على الأرض وصدرت القرارات اللازمة لتنفيذ المشروع الحلم حتى جاءت أحداث يناير 2011 وتوقف العمل في المتحف الكبير .. وكاد الحلم أن يوأد ويتلاشى ويختفي.!
حتى جاء الرئيس السيسي لينقذ الحلم من الغرق والموت ورغم الظروف الصعبة والتحديات الجسيمة التى واجهتها مصر في تلك الفترة، أمر الرئيس في عام 2015 باستكمال العمل بالشكل الصحيح، كما أمر بافتتاح متحف الحضارة مع تطوير المنطقة المحاطة به. تحول الحلم إلى صرحٍ أثري وثقافي ومعرفي عالمي وعنوانا يفتخر به الإنسان المصري والإنسانية جمعاء.
شريط حياة سينمائي مر في لحظات في عقل فاروق حسني لكن عمره أكثر من 33 عاما
يستحق فاروق حسني التكريم اللائق به بعد أن أنصفه التاريخ فقد آمن بحلمه رغم كافة العراقيل والصعوبان حتى أصبح الحلم حقيقة. ليس بالكثير عليه أن تمنحه الدولة قلادة النيل تقديرا لفنه وفكره وعزيمته وحلمه الذي ساهم بجهده وإبداعه حتى أصبح صرحا ومنارة للفن والإبداع المصري القديم والمعاصر.