تبرُد غزّة نسبيًّا؛ فيتأجج السودان، وبينهما لبنان على حرفٍ من القلق. كأن يدًا خفيّة تُسيّر الإقليم وتتلاعب فى مفاتيحه؛ لكى لا يطفو ولا يغرق، ويظل على حال رتيبة بين اليأس والأمل. وفيما تتباعد الملفات عن بعضها، مكانا وتركيبا وفى وعى أصحابها أيضًا، فإنها تتلاقى وتتجمع خيوطها معًا بين أصابع القاهرة. كُتب على الشرق أن يكون ميدانا دائمًا للقتال، وألا يُنتج شيئًا بقدر منتوجاته من الحروب المتوالية والمتوازية، بما يبدو مُنقطعا منها عن الأجواء المُحيطة، وما يتقاطع مع سواه، وبحيث لم يعُد ممكنًا الوقوف بجلاء عند الشرارة الأولى، ولا معرفة ما يمكن أن تؤول إليه الاحتراقات المُتزامنة. كان الطوفان قرارا لرجل من خيال قديم؛ لكنه استصحب معه أطماع الصهاينة المُعلنة والمخبوءة فى الأدراج. وإذ يُحال بداهة إلى الهَمّ الفلسطينى الذى بقى طازجًا لثمانية عقود أو يزيد؛ فلا يُمكن إعفاؤه من الاتصال المقصود بسوابق خشنة وناعمة فيما وراء الحدود، وهكذا نمضى فى سلسلة غائرة فى الزمن؛ إلى أن نصل لتاريخنا البعيد، أو ما يصح اعتباره قدرًا محتومًا، أو خيارًا أيديولوجيا وقعنا عليه بملء إراداتنا الخالصة. وعُقدة الاحتلال تستدعى مقاومته طبعًا، وتُجيزها؛ لكنها لا تصلح وحدها لتفسير الوقائع بكل ما تنطوى عليه من تناقضات. ذلك أن حماس عاشت زهاء سبع عشرة سنة قبل أن تُعلن عن ميولها الانتحارية فى السابع من أكتوبر، أذعنت فيها للخيار الظالم فى أربع حروب سابقة، واستبقتها كلّها بالانقلاب على شركاء القضية، وقبل ذلك تخادَمت مع اليمين الصهيونى المُتطرف فى إفساد مسار أوسلو، واختلفت مع فلسطين وعليها، وبدت مفتونة بأبديّة الصراع تحت ظلال النصوص المقدسة. وغالب الظن؛ أنها ما سارت إلى طوفانها إلا عن رغبة فى إرباك الداخل والخارج، وتغيير التوازنات التى كانت آخذة فى التشكُّل حولها، وليس القائم منها بعد طول عشرتها معه وتصالحها النفسى على ما يُوفّره لها من مزايا وترضيات. وأقرب باعث هُنا ما كان يتردد عن مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وقُرب التحاق عواصم إقليمية بارزة بقافلة التطبيع تحت عنوان السلام الاقتصادى، وبرغبة مُضمَرة فى تنحية السياسة جانبًا. بهذا؛ تُرَدّ العقبة إلى الاتفاق السعودى الإيرانى برعاية صينية فى ربيع العام 2023. إذ كان من مفاعيله أن أنهى حقبة اشتباك طهران بالوكالة مع الرياض، وحيّد ورقة الحوثيين عن أن تكون عامل إزعاج للمملكة. فكأن فصائل غزة انتُدبت لمهمة التعطيل، على أن تُلصق التهمة بالعائلة السنيّة، وتُمحَى آثارها بوهج القضية وحصّالتها العاطفية فى نفوس العرب جميعًا. وتسوية بكين نشأت عن أزمة عاشتها الجمهورية الإسلامية مع الغرب، بعدما انسحبت الولايات المتحدة من الصفقة النووية، ومَدّ ترامب يده ليقصف رقبة قاسم سليمانى فى إحدى سفراته التفقدية لأجنحة الممانعة وميليشياتها الرديفة على امتداد المنطقة. وكان ذلك من عاقبة انفلات الأوضاع فى سوريا لتصير حربا أهلية، تُستدعى إليها موسكو بوساطة شيعية، وتكثّف واشنطن حضورها الوازن بين النقاط الإقليمية الساخنة. خطوة أُخرى إلى الوراء؛ ونعود لحقبة الربيع العربى، وقد تكشّف أنها، فى النتائج على الأقل، كانت مُحاولة أمريكية من إدارة أوباما لإحلال سُلطات بديلة من خلفية دينية. ما بدا ردًّا على أجواء الانسداد مع الأنظمة المُحمّلة بإرث القومية وخطاباتها الكُبرى، والعاجزة عن دخول العصر بمنطق التبعية الكاملة. إنه إرث جورج بوش فى غزو العراق ما بعد أحداث سبتمبر، وقد كانت صفعة البرجين نفسها نتاج المزج بين تحالفات الغرب مع الإسلاميين فى أطراف آسيا، وتداعيات التلاعب بكل الأطراف فى حربى الخليج الأولى والثانية وما بينهما. أُغرى صدّام باحتلال الكويت؛ وكأنه كان يُصرّف فائض القوّة الذى تحصّل عليه من ثمانى سنوات مائجة مع إيران. انقسم البعث على نفسه كما جرت العادة، مُرتبكًا إزاء الثورة الإسلامية التى كانت إيذانًا بانقضاء زمن القومية العربية. أُحبط مشروع عبد الناصر لأنه كان تقدّميًّا بأكثر مِمّا تحتمل المنطقة، وماضويًّا أيضًا بأكثر مِمّا تتطلّب اللحظة؛ لذا تعثّر فى تناقضاته قبل أن تُختَرع له العثرات من خارجه. اختلفت الرؤوس الحامية مع مصر؛ بعدما حققت للعرب انتصارهم الوحيد على إسرائيل. ذهبوا فى كل الاتجاهات تقريبًا؛ إلا الاتجاه الصائب. ثم اضطُرّوا لاحقا للعودة إلى ما كان معروضًا عليهم، وبشروط أسوأ مِمّا كان مُتاحا فى السابق. بدءًا من قمة فاس المغربية صار السلام مع الدولة العبرية مطروحًا على الطاولة؛ لكن عودة القاهرة للجامعة العربية، وعودة الجامعة إليها، تأخرت بضع سنوات إضافية. كانت قمة الخرطوم انفعالاً عاطفيًّا؛ أنتج من القيود أضعاف ما وفّره من إسناد حقيقى فعّال؛ حتى أن "ناصر" الذى كان يُتَّهَم بالاندفاع والحنجورية، صار مُتَّهمًا لدى الأغلبية العربية بالمُهادنة والتخاذل؛ لأنه وافق على مُبادرة روجرز، وأبدى قبولاً لإمكانية التفاوض واستعادة الأرض بالتسوية السياسية. احتُّلت سيناء عقابًا لمصر على أدوارها الحيوية فى محيطها؛ وليس لأنها أغلقت المضائق أو تحرّشت بالصهاينة. سبق أن حاول العدوّ قضمها فى العدوان الثلاثى، ولم تكن الأمور تطوّرت إلى ما جرى لاحقا فى اليمين وغيرها، وما لعبه نظام يوليو من أدوار فى مؤازرة حركات التحرر، وإرساء فلسفة عدم الانحياز، والانفضاض عن رواسب العلاقات الطفيلية القديمة مع قوى الاستعمار، والتصدّى لحلف بغداد وغيره من أطروحات لإعادة تهذيب المنطقة وترصيص صفوفها بمنطق يتجاوز مصالحها الحقيقية والعضوية. وفى ظل الارتباك، أخطأ عبد الناصر مثلما تردّى الآخرون فى الخطأ. كان اتفاق القاهرة فى 1969 استدراكًا استباقيًّا على تعقّد العلاقة بين المقاومة والحُكم فى الأردن، لكنه لم يمنع أحداث أيلول الأسود لاحقًا، ولا وفّر لبنان من مصير مُشابه. صح القول إنه ما يزال يتعرّض لتداعياته إلى اليوم، أكان مع بقايا القوى الفلسطينية الحاضرة على أرضه وداخل مُخيّماته، أم من فصيل يُفتَرض أن يكون وطنيًّا، مثل حزب الله، لكنه يُقدّم نفسه على الشركاء، ويضع الدويلة فوق الدولة بقوّة السلاح وهشاشة الاستتباع والولائية المفرطة للمُرشد فى طهران. كانت حرب اليمن محاولة لاستيلاد الحداثة المُتخَيّلة قسرًا، مثلما كانت الجامعة العربية تصوّرًا بريطانيًّا لهندسة المنطقة، لم تجد الامبراطورية أنها يتضادّ مع رعايتها وتمويلها لجماعة الإخوان؛ بل ربما احتاجته ليكون جناحًا موازيًّا، وضربًا للجغرافيا الناهضة من داخلها، استنادًا إلى أداتين ماضويّتين تمامًا: الفكرة العِرقية المحمولة على الثقافة المُشتركة، والرابطة الدينية المُطعّمة بأوهام الخلافة. فُكِّكت الخرائط على قبر الامبراطورية العثمانية، فتوزّعت التركة بين القوى الطامعة، واقتُطِعت فلسطين لصالح اليهود المطرودين من جيتوهات الغرب. وتكرّرت صورة عصرية نسبيًّا من حروب الممالك؛ إلى أن تشكّلت الفضاءات التى نعرفها اليوم، عبر الفكفكة والتركيب وتحرير المُجتمعات خارج أى منطق معروف؛ فتوزّع الشام على دُوَل عِدّة، وأُلحِقَت مُدن بغيرها تحت عناوين مُستجدّة، وأنجزت الحملات الصليبية القديمة مهامّها المؤجلة قرونًا، فى سايكس بيكو وسان ريمو من بعدها. وما دخل السودان بكل هذا؟ الواقع أن حربه الأخيرة التى اندلعت ربيع العام قبل الماضى كانت حصيلة لكثير من كل تلك التفاصيل. بين الشمولية التى لم يُغادرها الشرق، ممزوجة بتجارة الشعارات الدينية، وبتغييب التنوّع قهرًا تحت سطوة النمذجة والتنميط التبسيطيين والساذجين. أُجبِر البلد الوديع على نسيان تاريخه الطويل؛ فأكلت العروبة المُتسّلطة بعضًا من إيمان أهله بالرابطة الوطنية، ما تجسّد بقسوة فى سلوك عصابات الجنجويد من قبيلة الرزيقات بحق الدارفوريين، وآل إلى انقسام الجنوب، مع احتمال عالٍ اليوم لأن يتبعه دارفور أيضًا. غادر الاستعمار وترك بذرته؛ فأورث المنطقة نزاعات بينية لا تقل حِدّة عما كانت عليه مع الغريب. والقوميّة كسّرت أكثر مِمّا جبرت، والأُصولية الدينية كَوَت الجروح وأغلقتها على ما فيها من صديد. والربيع العربى أعادنا إلى سيرة الهمجية الأولى، وما تزال اليمين مُضيّعة بين خلافات أهلها، وليبيا لا تعرف وصفة للوفاق بين شعب يقل عن سكان مدينة كُبرى. وربما انعكست أوضاعها على السودان جنوبًا؛ فتفجّرت ثورته المُرتبكة وصولاً لحربه الأهلية، ومن لظاها تشجّع السنوار على إطلاق طوفانه، تحت طائلة الفوضى الإقليمية العميمية، وتشبيك الحرائق مع بعضها. وليس أدل على تقاطع مصائرنا جميعًا، من أن عملية غزّة انتقلت، أو بالأحرى نُقِلَت، من القطاع للضفّة فجنوب لبنان، وغيّرت وجه سوريا، ووصل شررها المتطاير إلى عُمق الجمهورية الإسلامية، والعكس أيضًا؛ ذلك أن الحروب تأتى فرادى، ثم تتلاحم وتُنتج غيرها؛ لكن التسويات المُطمئنة والمُرشّحة للاستدامة لا تتحقق غالبًا، ولن تتحقق إلا من منظور شامل ووفق رؤية جماعية يُعاد تشكيل المنطقة كلها فى إطارها. وقد تأخذ الحرب الواحدة أشكالاً عِدّة، ويتردد إيقاعها بين صخب وخفوت؛ لكنها تظل قابلة للتجدّد فى أية لحظة، وفى الحد الأدنى لا تخبو على مستوى الوظيفة والوعى. ما يعنى أنه لا يُمكن الارتياح إلى رتابتها الحالية فى غزّة، ولا التعويل على الإرادة الأمريكية لإطفائها فحسب؛ ما لم يقتنع أطرافها المباشرون بأنه لا مصلحة لأحد فى استمرارها، ولا بديل عن الخروج منها مهما كانت الخسائر. ومغادرة الميدان وحدها لا تكفى؛ إنما يتعيّن تثبيتها بخَلع السترة العسكرية، وإعادة تطبيع الحياة والإقلاع عن الغرام بالموت المجّانى. مَدّ القطاع فتيله وراء الحدود؛ فتلقّفه حزب الله بعشوائية لا تتناسب مع كونه يسبح فى لُجّة من الزيت والبارود. واليوم تنشط ورشة إقليمية ودولية موسّعة؛ لانتشال الغزّيين من نكبتهم الثانية، فيما تُفوّت لبنان موعد القطار، وتستثنى نفسها من طاولة الحل. وخروجها الإجبارى ببندقية الحزب وإملاء طهران، لا يعزلها عن قضايا المنطقة، وعن ذاتها فحسّب؛ إنما يُعمّدها بالنار والدم فى مراسم طقوسيّة ما تزال ممتدة مع الجمهورية الإسلامية؛ ولن تنتهى إلا بتقويم سلوكها أو تغيير طابعها تمامًا. لن يتغيّر الصهاينة؛ لأنهم ما زُرعوا فى المنطقة إلا لأن يكونوا خنجرًا فى خاصرتها. ولا معنى لتكرار استدعائها للرقص دون جاهزية، أو استنكاف التغيُّر بما يتناسب مع المُستجدّات، ويُبرهن على الاستيعاب والبصرية وتراكم الخبرات من سوابق الدروس. وبهذا المنطق؛ فإن الدعوة لتنحية حماس أو تفكيك سلاحها ليست إمعانًا فى تأكيد الهزيمة والتنكيل بالمقاومين، بقدر ما تُمثّل مخرَجًا من الاحتراق الأبدى، وفرصة للتدارُس والمراجعة وإعادة التقويم والهيكلة، وكذلك الأمر بشأن "حصرية السلاح" التى وقّع عليها الحزب فى اتفاقه مع إسرائيل، ويُماطل فيها اليوم مع شركائه فى الوطن. من المهم أن يصحّ العزم دومًا؛ لكنه لا يغنى وحده عن الأخذ بالأسباب. ومهما كانت كفاءة السبّاح وثِقَته فى بدنه وإيمانه؛ فلا مبرر لسباحته عكس التيّار، ولا أمل فى أن ينتصر على الطوفان. والحماسيّون استوعبوا الحقيقة بعد جهد شاقٍّ من الوسطاء، وكُلفة باهظة على الغزّيين، ويتبقّى أن تستوعبها بقايا المُمانعة؛ ذلك أن المُكابرة لا تتهدّد بقاءها واحدها، بل تُمدِّد حبال الذريعة، وتُبقى هامش المناورة مفتوحًا للصهاينة وعصابة حُكمهم المتطرفة. تجدّدت الاشتباكات فى القطاع أوّل من أمس. خرج مُسلّحون من أحد الأنفاق ليُصيبوا جنديًّا، وردّ الاحتلال بقتل ما يزيد على مائة فلسطينى فى أقل من اثنتى عشرة ساعة. سارع نائب الرئيس الأمريكى لتأكيد صلابة الاتفاق، وعقّب ترامب نفسه بأن من حق إسرائيل أن تردّ؛ لكن ذلك لا يمسّ قراره المبرم بوقف الحرب. أى أن الجانب الخَشِن من المقتلة لن يعود كما كان؛ لكن الجمر ما يزال مُتّقدًا تحت الرماد. إنها الواقعة الثانية فى أقل من أسبوعين. وبالتأكيد ليس من مصلحة حماس أن تُفسِد الترتيبات الحالية؛ لذا يُحتَمَل أنها تسعى إلى استكشاف الهامش المُتاح للعب فى شروطها، أو تتعرّض لمُناكفات داخلية من مُتمرّدين يرفضون الصفقة، والاحتمال الأبعد أن ميليشيا غيرها تستخدم الأنفاق. وكلها تعنى فى الاستخلاص النهائى أنه لا سبيل للحركة للخروج من التفاهمات، ولا أُفق للسيطرة على بيئة القطاع أيضًا. ذلك أنها عاجزة عن ضبط بنيتها التحتية العميقة؛ فكيف لها أن تضبط السطح المائج بالمُناوئين والرقباء؟! تعرف يقينًا أنها لن تُطلّ برأسها علنًا من طيّات اليوم التالى؛ ولعلّها تطمع فى أن تُحرّك بعض تفاصيله من وراء ستار، أو تقبض على مفاتيح إعاقته حالما تستشعر حاجة للتشغيب والإرباك. وإذ يعود ذلك إلى مصلحة تنظيمية مباشرة؛ فإنه لا ينفصل عن قيد الأيديولوجيا إزاء الحلفاء والداعمين، وتصوّرها المغلوط عن القضية والدين؛ فكأنها تتعلّق بأهداب الماضى، وما رأت منه ورأى غيرها إلا كل سوء وشرّ. لو تطلّعت فى مرآة النكبة الأولى؛ ما ذهبت لتكرارها بالطوفان. ولو تطلّع الحزب إلى حالها المُتداعية، ما تشبّث بأوهامه المُهدّدة بنقل التجربة بحذافيرها إليه. ولو أجاد العرب عمومًا قراءة ماضيهم؛ ما ظلوا مقيمين فيه إلى اللحظة الراهنة! حلّ رئيس المخابرات العامة، اللواء حسن رشاد، ضيفًا على بيروت قبل يومين. زيارة فوق عادية، وتبدو محاولة لتكرار النجاح فى إنهاء حرب غزة، مع الجبهة اللبنانية المفتوحة على المجهول. لم تنقطع مصر عن لبنان قطّ؛ لكنها كانت تتعاطى معها فى السنوات الأخيرة من النطاق الدبلوماسى، وعبر جهودها المباشرة ضمن اللجنة الخماسية. واللمسة الأمنية لا تُضيف بعُدًا جديدًا للمقاربة فحسب؛ لكنها تُعبّر بالدرجة الأولى عن رؤية عميقة لتشابك الملفات، واتّصال الجبهات المفتوحة ببعضها تصعيدًا وتبريدًا، وتعقُّدًا وتسوية. ظل نتنياهو يتفاخر طيلة الشهور الماضية بأنه يخوض حربًا على سبع جبهات. تجمّدت أغلبها تباعًا، وبعدما حُوصِر بوصاية أمريكية فى غزّة؛ فلا تتبقّى له إلا نقاط تمركزه وراء نهر الليطانى، وفسحة النفخ فى رماد الساحة اللبنانية وإعادة إشعالها حسب الاحتياج. والقاهرة تجتهد فى استكمال مهمّة الإطفاء، وحصار دوائر النار التى لا يُؤمَن من إحداها على الأخرى؛ ذلك أنها معنيّة بكل تلك الساحات من موقع الالتزام والمصلحة واعتبارات الأمن القومى، ولأنها رُمّانة ميزان المنطقة وأهم قواها، ولديها دوائر أخرى تتطلّب النظر إليها، وعدم الانشغال عنها بغيرها. أكّدت الوقائع أن مصر كانت الأصوب دائمًا، وكانت سبّاقة على الآخرين. ذهبت إلى الحرب عندما كانت ضرورية، وتخاذل الآخرون، واستعانت بالسياسة على فوارق القوى وقتما استشرفت عُمق التحوّلات العالمية، ولم تتشَفّ فى المُزايدين عندما انتكست شعاراتهم، أو ارتدّ فريق منهم إلى ما بشّرت به وتعالَوا عليه. واليوم، لا تنشط لوقف الحروب وتأمين البيئات المُهشّمة فقط؛ لكنها تقود موجة جديدة لإعادة تعريف القضايا من منظور جديد، واستدعاء عناصر القوّة المُبعَدة، واستبعاد ما أثبت فشله بالممارسة وتكرار التجارب المؤلمة. يبدأ التعافى من الاعتراف بالاعتلال، أى من قراءة التاريخ المرضى. ومصر وحدها قرأت تاريخ المنطقة حربًا وسِلمًا، ولها نجاحات ملموسة على الجبهتين؛ بل لعلها صاحبة النجاح الوحيد فى كلتيهما. المنطقة مدعوّة إلى ترشيد ثِقتها غير المبررة فى الماضى، وإلى عدم الانخداع بالحاضر البرّاق، أو الركون إلى جانبه المُظلم لدى البعض باستكانة ويأس. الأوضاع الجيوسياسية فى صيرورة دائمة؛ إنما للأرض أوتاد لا تتبدّل ولا تُقتَلَع. ضباع الصهيونية فى أَوج انفلاتهم، وثمّة مقترح وسيط دومًا بين الذئاب والحملان. غزّة يُمكن أن تكون خُرّاجًا لا يبرأ فى جسد فلسطين والمنطقة، أو تكون فاتحة لمسارٍ جديد لم نختبره من قبل، ولا وجاهة للمصادرة عليه استباقيًّا. ولبنان ما بعد انتصار الدولة على الدويلة، والسودان إن أُخرِج مع حربه الأهلية، وتوقّف استثمار الذين يدعمون الميليشيا فى بقعة، وينقضّون عليها فى غيرها. وقد أثبت الزمن الماكر أن أسرع الناس إقبالا أسرهم إدبارا، كما أن الضباع لا تصون عهدًا، ولا يُمكن أن تُستأنس، تقع على الجيفة وتهرب من النزال، والأهم أنه لا طائل ولا قيمة ولا منفعة من مواجهة الضباع بالضباع.