منذ نكبة 1948، لم تكتفِ «إسرائيل» باحتلال الأرض واقتلاع الشعب الفلسطيني، بل شرعت في احتلال العقول وتزييف الوعي بالتوازي مع حروبها الدموية. فإلى جانب أسلحتها المتقدّمة وترسانتها العسكرية المدمرة، شيّدت آلة أشد فتكًا من الصواريخ، إنها منظومة «الهاسبارا» الدعائية الصهيونية. ولمن لا يعرف «الهاسبارا»، فهي جهود دبلوماسية إسرائيلية تتخذ من الكذب نهجًا، ومن التضليل سلاحًا، ومن الإعلام ميدانًا لحرب لا تقل وحشية وضراوة عن حروب الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزة. هدفها الخفي والأخطر: اغتيال الحقيقة، وتبرير جرائم الحرب والتطهير العرقي، وتبييض وجه الاحتلال بطلاءٍ من الأكاذيب والدعاية السوداء، في محاولة يائسة لمحو فلسطين من ذاكرة العالم. فلم تعد حروب إسرائيل وإرهابها وجرائمها اللاإنسانية حبيسة ساحات القتال كما تظن، بل تجاوزت الميادين العسكرية إلى فضاءات الإعلام والاتصال بجميع أشكاله، من الجامعات والمدارس والمؤسسات الصهيونية إلى القنوات الفضائية والمنصات الرقمية والشبكات الاجتماعية. وجعلت الكذب عقيدة راسخة لتزييف الوعي وتضليل الرأي العام العالمي عبر دعاية مُضللة وأكاذيب ممنهجة وسرديات مزيفة تبرر إرهابها وجرائمها تحت شعار الدفاع عن النفس، وفي الوقت ذاته تواصل إنكار مجاعة غزة، وتتهم المقاومة باتخاذ المدنيين دروعًا بشرية. فلك أن تعلم أن وكالة الإعلان الحكومية الإسرائيلية «IGAA» التي تُعد جزءًا من جهاز الهاسبارا، نشرت أكثر من 5 آلاف إعلان ترويجي على منصات جوجل فقط منذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 حتى 6 أكتوبر 2025 (حسب إحصاءات مركز شفافية الإعلانات التابع لجوجل). وقد هدفت هذه الإعلانات إلى التأثير على الرأي العام العالمي والأوروبي بالروايات المفبركة، مثل ادعاءات دعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» لحماس، في محاولة عقيمة لتشويه الحقيقة وعرقلة أي دعم أممي للفلسطينيين. كما جندت إسرائيل جيشًا من محترفي التضليل، وأنشأت منظمات تتخفى خلف شعارات التعليم، لتدريب طلاب المدارس والجامعات على فنون الكذب وقلب الحقائق، مُدعية أنها ضحية تدافع عن نفسها، كما تفعل مؤسسة «Hasbara Fellowships» التي تتعاون مع أكثر من 95 جامعة في أمريكا الشمالية. وهكذا أصبحت «الهاسبارا» أكبر منظومة دعائية عرفتها البشرية، لا تجيد سوى فنون الكذب والخداع وقلب الحقائق. ورغم مليارات الدولارات التي تنفقها إسرائيل على آلة «الهاسبارا» الدعائية والمدعومة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أنها مُنيت بفشل ذريع، وسقطت أكاذيبها أمام صلابة الحقيقة وقوتها، وظل الحق شامخًا رافعًا راية الانتصار، بفضل الدبلوماسية المصرية التي أقنعت الغرب بالاعتراف بدولة فلسطين رغم محاولات الكيان الصهيوني طمس وجودها لأكثر من 7 عقود. نعم، لقد حققت الدبلوماسية المصرية انتصارًا عظيمًا على «الهاسبارا» الإسرائيلية بهدوء وذكاء لا مثيل له، إذ سطرت تاريخًا جديدًا للقضية الفلسطينية بفضل حكمة القيادة السياسية ومواقفها الثابتة. ففي خطوة غير مسبوقة قلبت الموازين وأفزعت نتنياهو وأربكت حساباته، أعلنت فرنسا وبريطانيا وعدة دول أوروبية اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، فيما فشلت كل جهود «الهاسبارا» في تسويق روايتها الزائفة أو إقناع الغرب بخرافة «الدفاع عن النفس». كما أفشلت الدبلوماسية المصرية مخططات نتنياهو الرامية إلى تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، ودفعت ترامب إلى إعادة النظر في رؤيته التي كانت تدعم طرد الفلسطينيين وفرض السيطرة بالقوة العسكرية، ليتبنى الآن مواقف أكثر رشدًا تدعو إلى وقف الحرب ومنع التهجير ودعم حل الدولتين. وبدلًا من الترويج لخطته القديمة التي كانت تخدم الاحتلال وتحرضه العنف الدموي والسيطرة على القطاع لتنفيذ ما أسماه ب«ريفييرا الشرق الأوسط» تحت إدارة أمريكية إسرائيلية مشتركة؛ جاء إلى مصر للمشاركة في قمة السلام بشرم الشيخ، مؤكدًا دعمه للمفاوضات بين حماس وإسرائيل، ومُعلنًا إنهاء الحرب واستكمال المحادثات. وبذلك تلقت «الهاسبارا» هزائم متتالية حتى مع حليفتها الأهم، واشنطن، في المقابل تجاوز تأثير الدبلوماسية المصرية مراكز القرار الكبرى في الدوائر الأوروبية والأمريكية بل والعالمية أيضًا. وهكذا، بينما كانت الدبلوماسية العامة الإسرائيلية تُزيّف الواقع بكل لغات العالم، سطرت الدبلوماسية المصرية نصرًا جديدًا يضاف إلى سجل انتصاراتها. فقد أثبتت مصر، كما فعلت في السادس من أكتوبر 1973، أن معاركها لا تخاض فقط بالسلاح والدبابات والصواريخ والطائرات، بل بفكرها المستنير ورؤيتها الثاقبة وقيادتها الرشيدة. وكما عبر الجندي المصري خط بارليف وحطّم أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، عبرت الدبلوماسية المصرية جدار الصمت الغربي وحطمت أسطورة «السردية الإسرائيلية التي لا تُكذّب»؛ لتؤكد أن فلسطين ستظل في قلب مصر، وأن عدالة القضية لا تسقط بالتضليل والكذب ما دام وراءها من يؤمن بها ويدافع عنها. وتحيا مصر.