سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصر تضع حجر أساس «غزة الجديدة».. تهافت دولى على مجلس السلام.. التحالفات الإقليمية تتبدل وأولويات بعض العواصم تتغير.. مصر تظل حجر الزاوية فى كل ما يتعلق بغزة لأنها الأكثر إخلاصا لقضية فلسطين
تهافت دولى على «مجلس السلام».. التحالفات الإقليمية تتبدل وأولويات بعض العواصم تتغير.. مصر ستظل حجر الزاوية فى كل ما يتعلق بغزة لأنها الأقرب جغرافيًا للقطاع والأكثر إخلاصًا للقضية الفلسطينية والأقدر على تحويل السلام من اتفاق على الورق إلى واقع ملموس ينبض بالحياة.. مع اقتراب فصل الشتاء تزداد الحاجة إلى إجراءات سريعة تضمن بقاء أهالى غزة فى بيوتهم وصمودهم على أرضهم لا دفعهم قهرًا إلى هجرة القطاع أو إلى المجهول. من مدينة السلام شرم الشيخ، أكدت مصر عبر بيان صادر عن رئاسة الجمهورية رؤيتها الثابتة تجاه مستقبل المنطقة، معربةً عن «تطلعها لتحقيق السلام، وأنها ستتعاون مع الجميع، لبناء شرق أوسط خالٍ من النزاعات، شرق أوسط يتم بناؤه على العدالة والمساواة فى الحقوق، وعلى علاقات حسن الجوار والتعايش السلمى بين جميع شعوبه بلا استثناء»، وهو تعبير موجز ودقيق يلخص جوهر الرؤية المصرية لما بعد الحرب فى غزة.. فالهدنة هنا ليست غاية بل هى بداية لمرحلة جديدة تُبنى على العدالة والاستقرار والتنمية المشتركة. لقد شهدت شرم الشيخ، لحظة تاريخية بتوقيع اتفاق وقف الحرب فى قطاع غزة، برئاسة مشتركة للقمة- التى كانت محط أنظار العالم- بين الرئيس عبدالفتاح السيسى ونظيره الأمريكى دونالد ترامب؛ والآن تتجه أنظار العالم إلى المرحلة التالية من هذا الحدث الكبير «مرحلة تنفيذ الاتفاق وإعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة». فوقف إطلاق النار ليس نهاية المشهد، لكنه بداية فصل تتقاطع فيه السياسة مع الإنسانية، وتنكشف خلاله النوايا الحقيقية للأطراف كافة، من يسعى بصدق إلى تثبيت السلام واستقرار غزة، ومن ينظر إلى الإعمار كمدخل للمكاسب والنفوذ. وبدا لى من خلال مشاهداتى خلال الأسابيع الماضية، ومن واقع حضورى لفعاليات القمة التى كنت شاهدًا عليها فى مدينة شرم الشيخ، أن المشاورات المكثفة التى أجرتها القاهرة قبل وأثناء التوقيع، تؤكد أن الاختبار الحقيقى يبدأ الآن، فالمطلوب هو تحويل ما كُتب فى الاتفاق إلى واقع ملموس داخل قطاع غزة؛ فمصر تضع فى مقدمة أولوياتها تثبيت وقف إطلاق النار وضمان تدفق المساعدات الإنسانية والطبية والوقود بكميات ونوعيات كافية، بما يتيح تشغيل المستشفيات ومحطات المياه والكهرباء، وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة للسكان. والواضح أن مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار لن تقل تعقيدًا عن مرحلة الحرب ذاتها.. فالمعادلة الآن تتجاوز مجرد تثبيت الهدوء إلى صياغة واقع جديد داخل غزة يضمن الاستقرار ويمنع تكرار دوامات التصعيد، ومن هنا، تتحرك الدبلوماسية المصرية على أكثر من مسار، تجمع بين التحرك الميدانى لتأمين المساعدات الإنسانية والتحرك السياسى لبناء توافقات تضمن استدامة التهدئة. الأداء المصرى خلال قمة شرم الشيخ للسلام وما بعدها يشير بوضوح إلى عودة الدور الإقليمى الفاعل للقاهرة، القادر على الجمع بين المتناقضات وفرض منطق الحلول الواقعية، فلا يخفى على أحد أن هناك بعض القوى من يسعى إلى توظيف الملف الفلسطينى لخدمة حسابات داخلية أو إقليمية ضيقة، بينما تظل مصر الأكثر التزامًا بنهج الدولة الراعية للسلام ولصالح القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطينى المشروعة، إدراكًا منها أن أمن غزة واستقرارها يمثلان امتدادًا طبيعيًا لمعادلة الأمن القومى المصرى. لقد كانت كلمة الرئيس السيسى - خلال قمة شرم الشيخ للسلام تحت سمع وأنظار وحضور قادة الدول الكبرى والعالم - تأكيدا على ثابت من ثوابت السياسة الخارجية المصرية، وهو أن السلام لم يكن يومًا خيار ضعف، بل رؤية قوة واستشراف للمستقبل، فمصر التى دشنت مسار السلام فى المنطقة منذ زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى القدس عام 1977، ما زالت تتحرك بالمنهج ذاته، منهج الواقعية السياسية التى توازن بين المبادئ والمصالح، وبين التاريخ والجغرافيا. ومن خلال هذا النهج، تواصل القاهرة أداء دورها كركيزة للاستقرار الإقليمي، تدافع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، وتؤمن بأن حل الدولتين هو الطريق الوحيد لضمان الأمن والسلام فى المنطقة، فأرض الكنانة لا تتعامل مع القضية الفلسطينية كملف دبلوماسى أو سياسى مؤقت، بل كقضية وجودية تمس صميم الأمن القومى المصرى ومكانتها الكبيرة فى محيطها العربى. وفى الوقت الذى تتبدل فيه التحالفات الإقليمية وتتغير أولويات بعض العواصم، تبقى القاهرة قابضة على موقفها الثابت، بأن السلام الحقيقى لا يمكن أن يقوم على القوة أو الإملاءات، بل على العدالة والمساواة وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، ومن هنا تأتى رسالتها المتكررة إلى كل الأطراف، بأن البديل عن السلام هو الفوضى، وأن استدامة الأمن لا تتحقق إلا بالاعتراف المتبادل وبناء الثقة المتبادلة. ولعل النداء الذى وجهه الرئيس السيسى - خلال كلمته بقمة شرم الشيخ- إلى الشعب الإسرائيلى يحمل دلالات عميقة؛ فهو يذكرهم وشعوب العالم بأن صناعة السلام ليست مهمة الحكومات وحدها، بل مسؤولية الشعوب التى تؤمن بأن خصوم الأمس يمكن أن يصبحوا شركاء الغد. من هنا، فإن أولويات الدولة المصرية، تكمن فى تثبيت وقف إطلاق النار وضمان تدفق المساعدات الإنسانية والطبية والوقود بكميات ونوعيات كافية، بما يسمح بتشغيل المستشفيات ومحطات المياه والكهرباء، وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة للسكان.. فالموقف المصرى ثابت وواضح، عنوانه الرئيسى يكمن فى رفض تهجير الفلسطينيين، قسريًا أو غير مباشر. وترى مصر أن غياب الخدمات الأساسية أو إطالة أمد المعاناة الإنسانية هو شكل من أشكال «التهجير الصامت»، وهو أمر لا يمكن القبول به، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء، حيث تزداد الحاجة إلى إجراءات سريعة تضمن بقاء الناس فى بيوتهم وصمودهم على أرضهم، لا دفعهم قهرًا إلى هجرة القطاع أو إلى المجهول! وبينما تتحرك القوافل الإنسانية نحو غزة، بدأت الأنظار تتجه إلى الملف الأثقل سياسيًا واقتصاديًا وهو «إعادة الإعمار»، فالقطاع الذى أنهكته الحرب يحتاج إلى خطة شاملة تعيد بناء المنازل والمستشفيات والمدارس وشبكات الطرق والكهرباء والمياه، وتؤسس لبنية تحتية قادرة على دعم الحياة اليومية، من هنا شهدت كواليس القمة فى شرم الشيخ نقاشات مكثفة حول تشكيل «مجلس السلام لإعادة إعمار غزة»، وهو الإطار الدولى الجديد الذى سيشرف على المشروعات ويمولها ويتابع تنفيذها. واللافت أن الانضمام إلى هذا المجلس أصبح هدفًا تسعى إليه عواصم عديدة، ليس فقط بدافع التضامن، بل لأن كل دولة تبحث عن موطئ قدم فى مشاريع الإعمار، بعدما بات واضحًا أن دول الخليج ستموّل الجزء الأكبر من العملية، كما صرح بذلك مؤخرًا الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.. وهكذا تحولت مرحلة الإعمار إلى ساحة جديدة من التنافس الهادئ بين الدول، كلٌ يسعى إلى نصيبه من كعكة إعادة البناء، سواء عبر شركاته أو نفوذه السياسى. وفى خضم هذه التحركات، تبدو مصر الطرف الأكثر أهلية لقيادة المشهد، فموقعها الجغرافى يجعلها البوابة الطبيعية الوحيدة لقطاع غزة، وخبرتها الميدانية فى مراحل الإعمار السابقة تمنحها أفضلية عملية لا ينازعها فيها أحد.. كما أن مصر تتحرك من منطلق الواجب والمسؤولية، وليس من باب تحقيق المكاسب. ولأن السلام لا يُصنع بالكلمات والشعارات، بل بالفعل الجاد والإرادة المخلصة، فلا يمكن لأحد أن يزايد على مصر ودورها؛ فهى الدولة التى فتحت معابرها للمساعدات واستقبلت المصابين، وتولّت الوساطة السياسية حتى تحقق وقف إطلاق النار؛ وهى اليوم تتهيأ لقيادة المرحلة الثانية «مرحلة البناء وإعادة الأمل للفلسطينيين فى قطاع غزة»، تأكيدًا لمسؤوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية. ومن المنتظر أن تنفذ الدولة المصرية العديد من المشروعات فيما يتعلق بإعادة إعمار غزة، لخبرتها الطويلة وكفاءتها وامتلاكها الإمكانات اللوجستية والتقنية الهائلة للتنفيذ، وتتلخص فى بناء وحدات سكنية جديدة تعوض الأسر المدمّرة بيوتها وتأهيل الطرق والبنية التحتية وإعادة تشغيل المستشفيات والمدارس؛ إضافة إلى مشروعات الكهرباء والمياه والطاقة المتجددة؛ وتمتلك مصر رؤية تنموية متكاملة تضمن الحياة والكرامة للفلسطينيين وتمنع تكرار دوامة الدمار. ولا ريب أن الأيام المقبلة ستشهد اجتماعات متتالية فى مصر بين ممثلى الأممالمتحدة والبنك الدولى وعدد من الدول المانحة، بمشاركة مصرية فعّالة، لوضع الهيكل التنفيذى لمجلس السلام وآليات التمويل والإشراف. كما تمتلك مصر رؤية متوازنة تقوم على توحيد الجهود الدولية تحت مظلة واحدة تضمن الشفافية فى إدارة الموارد، وتغلق الباب أمام أية محاولات لتسييس عملية الإعمار أو استغلالها سياسيًا.. كما تواصل تنسيقها الكامل مع السلطة الفلسطينية لضمان أن تكون عملية الإعمار جزءًا من مشروع سياسى واقتصادى أشمل، يرسخ الاستقرار ويعيد الأمل إلى سكان القطاع. الأسابيع القادمة ستكشف الكثير حول خطط إعادة الإعمار، لكن الثابت أن مصر ستظل حجر الزاوية فى كل ما يتعلق بغزة، لأسباب عديدة وراسخة، فمصر هى الأقرب جغرافيًا للقطاع، والأكثر إخلاصًا للقضية الفلسطينية، وهى كذلك الأقدر على تحويل السلام من اتفاق على الورق إلى واقع ينبض بالحياة والأمل، ولعل ما شهدته مدينة شرم الشيخ من إحياء مسار السلام مرة أخرى بعد سنتين متصلتين من الحرب والدمار أكبر دليل على كل ما طرحناه.