في السادس من أكتوبر، لا تُضيء مصر شموع الذكرى فحسب، بل تُشعل في القلب جذوة الكبرياء التي لا تخبو. ذلك اليوم الذي عبرت فيه أجيالُ مصر قناة الخوف إلى ضفة المجد، كان وما زال درسًا في أن الإرادة إذا اقترنت بالوعي، صارت قدرًا لا يُهزم. وحين تتأمل في ملاحم العبور، تدرك أن نصر أكتوبر لم يكن بندقيةً وحدها، بل كان كلمةً وصورةً وصوتًا، كان إعلامًا يُقاتل في صمتٍ كصوتِ الرصاص في صدر الليل. لقد كان إعلام الحرب في أكتوبر عقلًا وطنيًّا راشدًا، يفهم قيمة المعلومة كما يفهم المقاتل معنى الموقع. لم يكن إعلامًا دعائيًّا يلهث خلف البطولة الزائفة، بل كان ضميرًا صادقًا يحفظ سرّ المعركة كما يحفظ الأب اسمه في قلب ابنه. فالكلمة يومها كانت سرًا من أسرار النصر، والبيان العسكري كان نشيدًا يكتبه الوطن كل يوم بحبر الفخر، فيذاع على الناس فيتحول إلى طاقةٍ من الإيمان والعزة. في أكتوبر، لم يكن المذيع قارئًا للأخبار، بل شريكًا في المعركة. كانت الميكروفونات على الجبهة كما البنادق، وكانت الإذاعة المصرية أداة توجيه ووعي، تُطمئن الجبهة الداخلية، وتُربك العدو بكلمة محسوبة النغمة والمعنى. الإعلام وقتها لم يكن يبحث عن "السبق"، بل كان يصنع الصدق. وكانت مصر كلها تُصغي، لا إلى صوت المذيع، بل إلى نبض الوطن في نبراته. تحية إجلالٍ واعتزازٍ لفرسان الكلمة الذين خاضوا معركة الوعي في لحظة النصر؛ إلى أحمد سمير صوت البيان الأول، وآمال فهمي وليلى رستم وهمت مصطفى اللاتي حملن رسالة الوطن بصدقٍ وجرأةٍ وإيمان، وإلى حمدي الكنيسي مراسل الجبهة الذي جسّد شجاعة الميدان بصوته لا بسلاحه، فوثّق للتاريخ لحظاتٍ من المجد لا تُنسى. هؤلاء كانوا جنود الإعلام كما كان المقاتلون جنود الميدان؛ بالكلمة الصادقة رفعوا المعنويات، وبالرسالة الرفيعة صانوا وعي الأمة، ليظل إعلام أكتوبر شاهدًا خالدًا على أن الكلمة قد تصنع النصر كما تصنعه الدماء. في زمن لم يكن فيه "ترند" ولا "لايك"، كانت هناك قيمة. وكان الإعلامي يخدم وطنه، لا نفسه. كان يعرف أن الكلمة مسؤولية، وأن الرسالة لا تُقاس بعدد المشاهدات، بل بقدر ما تبعثه من وعيٍ وإلهام. فإعلام أكتوبر لم يكن يسعى إلى التجميل، بل إلى التكميل — إلى رفع الروح المعنوية لا رفع نسب المشاهدة. أولئك الذين جلسوا خلف الميكروفون في إذاعة "صوت العرب"، أو أمام كاميرات ماسبيرو، لم يكونوا يملكون تكنولوجيا البث المباشر، لكنهم امتلكوا صدقًا مباشرًا يصل إلى قلب المواطن بلا وسائط. كانوا يؤمنون أن "الإعلام في الحرب" ليس تزيينًا للواقع، بل درعًا للوطن، يحميه من الشائعات كما تحميه الدبابات من القذائف. اليوم، ونحن نعيش زمنًا تتسارع فيه المعلومات كما تتطاير الشرر في المعارك، نحتاج إلى أن نتذكّر مدرسة أكتوبر الإعلامية — مدرسة الانضباط والصدق والمهنية الوطنية. فالمعركة تغيّرت أدواتها، لكنها لم تغيّر جوهرها. الآن، لا تُطلق الحرب فقط من على الجبهات، بل من على الشاشات. والإعلامي المعاصر، تمامًا كما كان مذيع أكتوبر، مطالبٌ بأن يكون ضابطًا في ميدان الوعي، لا مروّجًا في سوق الفوضى. اليوم، يُقاتل الجندي المصري على الحدود، ويُقاتل الإعلامي الشريف على الجبهة المعنوية — ضد الشائعة، وضد التشويه، وضد تزييف الوعي. وما بين طلقة الرصاص وطلقة الكلمة، تظل مصر محمية بإيمان أبنائها. وإذا كان نصر أكتوبر قد استعاد الأرض، فإن الرئيس عبدالفتاح السيسي يستعيد اليوم الوعي والهوية. فهو يقود معركةً لا تقل قداسةً عن معركة العبور — معركة بناء الدولة المصرية الحديثة، وحماية وعي الأجيال من حروب الجيل الرابع والخامس. ولذلك، فإن الإعلام في هذا العصر مُطالب بأن يكون امتدادًا لإعلام أكتوبر: إعلامًا يُعبّر عن نبض الوطن لا عن ضجيج الشارع، إعلامًا يقود لا يُقاد، يُنير لا يُثير، يُربي الوعي لا يُلهي العقول. إن ذكرى السادس من أكتوبر ليست فقط استرجاعًا لتاريخٍ مضى، بل هي مرآةٌ تُذكّرنا بما يجب أن نكون عليه دائمًا: أن يكون الإعلام وعيًا صادقًا، والسلاح إرادةً مؤمنة، والوطن فكرةً لا تموت.