إن السادس من أكتوبر من العام 1973 من الميلاد، لم يكن مجرد معركة عسكرية تُسطر فى دفاتر التاريخ، أو تُحفظ فى أضابير المكتبات، أو تُروى فى المناسبات والأعياد الوطنية فحسب، بل كان أيقونة خالدة لإرادة أمة كاملة، وأنموذجًا فريدًا لتلاحم جيش وشعب التقيا على كلمة سواء، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وإعلانًا عمليًا أن الشعوب إذا آمنت بعدالة قضيتها، وتمسكت بوحدتها، وصبرت على التحديات، فإنها قادرة على قلب الموازين وصناعة النصر، لقد كان هذا اليوم العظيم محطة فارقة فى تاريخ مصر والأمة كلها، يومًا تجلت فيه مصر فى أبهى صورها؛ شعبًا صابرًا متحملًا، وجيشًا باسلًا مضحيًا، وقيادةً واعيةً تقرأ الواقع وتستشرف المستقبل، لتثبت للعالم كله أن النصر لا يُعطى هبة أو منحة، وإنما يُنتزع بالصبر والإيمان والعزيمة والجهاد. وقد علّمنا القرآن الكريم أن النصر مشروط بالصبر والثبات، فقال تعالى: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ «الأنفال: 46»، وعلّمنا النبى صلى الله عليه وسلم أن التضحية فى سبيل الوطن من أسمى مراتب الفداء وأرفع مقامات البذل، وفى السادس من أكتوبر جسّد الشعب المصرى هذه القيم واقعًا حيًّا، محتملًا ضيق العيش، باذلًا الغالى والنفيس، مرتقيًا فوق همومه الشخصية ليكون السند الأمين لجيشه فى معركة الكرامة واسترداد الأرض. لم يكن الجيش المصرى ليخوض معركة العبور وحده، وإنما كانت وراءه أمة بأكملها، تسانده وتشد على يديه، أمة أجمعت على أن الكرامة أثمن من الحياة، وأن الوطن أغلى من النفس، لقد تلاحمت الجبهة الداخلية مع الميدان العسكرى فى مشهد مهيب لم يعرف له التاريخ مثيلًا، حتى غدت المعركة ملحمة وطنية جامعة، اشترك فيها الجميع كلٌّ من موقعه، فكان النصر ثمرة إرادة مشتركة، وعنوانًا لوحدة صهرتها التضحيات، وعندما نتأمل هذه الملحمة الخالدة، تستوقفنا ملامح بارزة لدور الشعب المصرى نلخصها فى نقاط: أولًا: التحمل والصبر: لقد تحمّل الشعب المصرى تبعات التعبئة قبل أكتوبر، ولم يستسلم لليأس أو الانكسار، بل صبر على سنوات حرب الاستنزاف، واحتمل ضيق العيش من أجل إعادة بناء الجيش، كان صبره سمة وطنية تؤكد أن الشعوب الصابرة قادرة على صناعة المجد وتغيير مجرى التاريخ. ثانيًا: الوعى والإدراك الوطنى فقد التفّ الشعب حول قيادته السياسية والعسكرية، مدركًا أن المعركة لم تكن مجرد استرداد أرض، بل معركة وجود وهوية وكرامة، لقد وعى المصريون أن النصر يبدأ من وعى الأمة بحقيقة الصراع، ولا يتحقق هذا النصر إلا بشعب مدرك لمسئوليته. ثالثًا: التضحية والبذل لم يتردد الشعب فى تقديم أعز ما يملك؛ فقد قدّمت مصر أبناءها وخيرة شبابها على الجبهة، مجسدين بذلك عقيدة راسخة بأن الدفاع عن الوطن عبادة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ «البقرة: 207». رابعًا: العمل والإنتاج لم تتوقف المصانع، ولم تهدأ الحقول، فالجبهة الداخلية كانت تؤمّن ظهر الجيش، والعمل كان معركة موازية لمعركة الحدود، حتى تكاملت سواعد المقاتلين على الجبهة مع عرق العمال والفلاحين فى الداخل، فى ملحمة وطنية واحدة. خامسًا: الوحدة الوطنية: فمن أبرز ملامح أكتوبر ذلك الالتحام العظيم بين المسلمين والمسيحيين، حين علت صيحة «الله أكبر» لتوحد القلوب وتجمع الصفوف، لقد غاب الانقسام فى لحظة الخطر، وأثبت المصريون أن وحدتهم هى سر قوتهم، وأن الانتصار لا يتحقق إلا بشعب موحّد الكلمة والعقيدة الوطنية. سادسًا: الدعم المعنوى: فالكلمة الصادقة كانت سلاحًا آخر لا يقل أثرًا عن السلاح فى الميدان، فقد أدى الإعلام دورًا مؤثرًا فى بث روح التحدى، يزرع الثقة ويعزز الصبر ويشحذ العزائم.. سابعًا: رمزية الإرادة الشعبية: فلم يكن نصر أكتوبر 1973م نصر جيش وحده، بل نصر أمة بأكملها أثبت الشعب المصرى فيه أنه الدرع الحصين والسند الأمين، وأن الإرادة الشعبية إذا اجتمعت وصبرت وتوحدت فإنها لا تُهزم، حتى تجلّى الدرس الأعظم: أن الشعوب الواعية المؤمنة المتماسكة هى التى تصنع مستقبلها وتحمى كرامتها.