في لحظة فارقة من تاريخ الأمة، وعبر أثير إذاعة لا تنام، انطلق صوت النصر من القاهرة إلى كل بيت في مصر، ليعلن للعالم أن العبور قد بدأ وأن الكرامة قد عادت، ولم تكن الجبهة وحدها مشتعلة بالنيران، بل كان في القاهرة جبهة أخرى، خلف الميكروفونات، حيث خاضت الإذاعة المصرية حربها الخاصة، بالكلمة والصوت، من أجل دعم الجنود ورفع الروح المعنوية للشعب. في تمام الرابعة وخمس دقائق، مساء السادس من أكتوبر 1973، دوى صوت المذيع حلمي البلك بجملة ستظل محفورة في وجدان المصريين: «هنا القاهرة.. نجحت قواتنا المسلحة في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة»، ومنذ تلك اللحظة، تحولت الإذاعة إلى جبهة معنوية تقاوم بالإيمان، وتروي تفاصيل النصر لحظة بلحظة. ◄ بيان رقم 1.. صوت لا ينسى كان المذيع «حلمي البلك» صاحب الصوت الذي أعلن بيان النصر الأول، حيث كانت كلماته تمهيدًا للشعب بأن المعركة قد بدأت وأن النصر قريب. ولد حلمي البلك في العريش 1934، وبدأ عمله في صوت العرب، حيث تولى مهام إذاعية منذ عام 1958، وكان اختياره لإذاعة البيان الأول بسبب قرب صوته من المستمعين وقدرته على ضبط الانفعال أثناء البث. وعاش صوت «البلك» في وجدان المصريين، حيث ربطوه بالعبور والنصر، وظل اسمه مقترنا بجملة «جاءنا البيان التالي». ◄ خلف الميكروفون.. أصوات رفعت الروح المعنوية ولأن حرب أكتوبر لم تكن معركة دبابات فقط، بل معركة صوت وإيمان، عملت فرق متواصلة لبث البيانات والرسائل التحفيزية من داخل مبنى ماسبيرو. فكانت المذيعة «آمال فهمي» تقدم برنامج «على الناصية» بالاضافة لمشاركتها في «رسالة إلى جندي»، تخاطب فيها المقاتلين بأسماءهم وتقرأ رسائل أمهاتهم. أما صفية المهندس، فكانت أول مذيعة تتولى إدارة الإذاعة المصرية، وقررت المبيت داخل المبنى طيلة أيام الحرب، خوفا من انقطاع البث في أي لحظة. اقرأ أيضا| من الخداع إلى القرار.. كيف أربكت القوات المسلحة حسابات العدو في حرب أكتوبر؟ أما «وجدي الحكيم»، و«عبد الوهاب قتاية»، فكانا يقدمان نشرات وتقارير صوتية من غرفة الأخبار المخصصة للطوارئ. وقال الحكيم في حوار له «لم نكن نعرف ما يحدث بالتحديد على الجبهة، لكننا كنا نعلم أن صوتنا يجب أن يبقي الشعب متماسكا». ◄ مراسلون على خط النيران خرجت الإذاعة من جدرانها إلى ساحة المعركة، حيث أرسلت سيارات بث متنقلة إلى القناة، لتسجيل أصوات الجنود في لحظة العبور. في الوقت الذي حمل فيه «حمدي الكنيسي» ميكروفونه بين دوي المدافع، وسجل أول تقارير ميدانية من الضفة الشرقية بعد العبور، كان صلاح زكي بصوته القوى الجهوري، يتولى قراءة البيانات العسكرية. ◄ «بسم الله».. أغنية بطعم النصر بعد وقت قصير من إذاعة البيان، تحولت استديوهات الإذاعة إلى ورشة وطنية، حيث سجل العندليب أغنية «بسم الله» خلال 48 ساعة فقط، ولحنها بليغ حمدي وهو يستمع لأخبار المعركة لحظة بلحظة. وأعادت الإذاعة بث أغاني وطنية لعبد الوهاب وشادية، وخرجت عشرات الفواصل الجديدة تحت عنوان «أكتوبر المجيد»، وأصبحت عبارة «لقد عبرنا الهزيمة إلى النصر» شعارًا إذاعيًا في كل ذكرى ل نصر أكتوبر. وبعد 51 عاما، لا يزال صوت «هنا القاهرة» يفتح باب الذاكرة كما فتح باب إعلان النصر. الإذاعة التي وحدت مشاعر المصريين، وأثبتت أن الكلمة قد تسبق الرصاصة، فمن خلف الميكروفون خاضت الإذاعة المصرية حربها الخاصة للحفاظ على الروح المعنوية، بذلك الصوت «هنا القاهرة» والذي لم يكن مجرد إعلان للنصر وإنما إعلانا لعودة الكرامة.