عند الحديث عن مهن المستقبل وجداراتها المتجددة لابد من الوقوف أمام التجربة الوطنية المصرية، تلك التجربة التي تسير بخطى واثقة نحو مواكبة التحولات العالمية في سوق العمل وإعادة صياغة معايير النجاح فيه، فقد أدركت الدولة المصرية، في مرحلة مبكرة، أن التغيرات التكنولوجية والرقمية لن تترك مجالًا من مجالات الحياة دون أن تطاله، وأن الاستثمار الحقيقي في بناء القدرات البشرية هو الركيزة الأولى لضمان استدامة التنمية وتعزيز الأمن القومي بمعناه الشامل، المادي والمعرفي والقيمي. وانطلاقًا من هذا الوعي أطلقت الدولة سلسلة من المبادرات الوطنية، لإعادة هيكلة منظومة التعليم والتدريب والتأهيل، بهدف تمكين الأجيال الجديدة من امتلاك المهارات التقنية والمعرفية العميقة، إلى جانب الجدارات السلوكية والإنسانية التي تتطلبها بيئة عمل عالمية متغيرة، فتطوير المناهج الدراسية، وتوسيع برامج التدريب الفني والمهني، وإدخال التحول الرقمي إلى المؤسسات التعليمية، أصبحت جميعها مسارات متكاملة تصب في هدف واحد هو صناعة رأس مال بشري قادر على المنافسة والابتكار. وتتجلى هذه الرؤية في برامج وطنية نوعية مثل المبادرات الخاصة بالتحول الرقمي وريادة الأعمال، ومراكز الابتكار التكنولوجي، والمنح الدراسية المشتركة مع الجامعات العالمية، إلى جانب تطوير منظومة التعليم الفني والتدريب المهني وربطها بسوق العمل، وتسعي هذه الجهود إلى غرس قيم العمل الجاد، وروح الإبداع، والانضباط، واحترام الوقت، والعمل الجماعي، ما يجعل الإنسان المصري أكثر قدرة على قيادة التغيير. وتفدم التجربة المصرية نموذجًا متكاملًا يجمع بين بناء المهارات الصلبة مثل المعرفة التقنية والرقمية، وتنمية المهارات الناعمة مثل التواصل، والقيادة، والعمل الجماعي، والتفكير النقدي، وهو ما يشكل معًا قاعدة للجدارات المستقبلية القادرة على استيعاب متطلبات الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، وبذلك تصبح مصر في موقع المبادِر لا المتلقي، وتعيد رسم خريطة القوى العاملة بما يتسق مع أولوياتها الوطنية ورؤيتها للتنمية المستدامة 2030، وتضع الإنسان بوعيه وأخلاقه وقدرته على الإبداع في قلب عملية التنمية وصناعة المستقبل المهني. وشهدت مصر خلال العقد الأخير تحولات نوعية كبرى في مجال التعليم، انطلقت من قناعة راسخة بأن بناء الإنسان هو المدخل الرئيس لأي نهضة حقيقية، فتبلورت هذه التحولات في تطوير المناهج الدراسية لتصبح أكثر حداثة وارتباطًا بمتطلبات العصر وسوق العمل، وإطلاق المنصات الرقمية التعليمية التي تتيح الوصول إلى المعرفة بطرق مرنة ومتنوعة، وإدخال برامج الذكاء الاصطناعي والروبوتات إلى مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي بما يواكب الثورة الصناعية الرابعة وما تلاها، ويعزز القدرات البحثية والتطبيقية، بجانب ترسيخ مفهوم التعلم المستمر مدى الحياة بوصفه ركيزة أساسية لتنمية القدرات البشرية ومواجهة التغيرات السريعة في سوق العمل. لذا جاءت الجامعات التكنولوجية التي أُنشئت مؤخرًا لتكون نموذجًا عمليًا على توجه الدولة نحو ربط المعرفة بسوق العمل وبناء جسور متينة بين التخصصات الأكاديمية والمهارات التطبيقية، كما أسهمت مشروعات وطنية مثل مصر الرقمية، في توفير بيئة حاضنة للتحول الرقمي تعيد تشكيل خريطة المهن داخل القطاعين الحكومي والخاص على السواء، ممهدة الطريق لاقتصاد معرفي قائم على الابتكار والتقنية، وبذلك ترسم مصر ملامح منظومة تعليمية ومهنية جديدة تعد الأجيال القادمة لتكون أكثر قدرة على المنافسة والإبداع والقيادة في عالم سريع التغير. وامتد الاهتمام في التجربة المصرية ليشمل البعد القيمي والإنساني إدراكًا بأن أي نهضة مهنية تحتاج إلى منظومة قيمية متينة تحفظ للإنسان مكانته وتوجه المهارات نحو الصالح العام، وبالتالي اتسعت الرؤية الوطنية لتأسيس توازن بين الجدارات التقنية والجدارات القيمية بحيث يصبح خريجو التعليم والتدريب قادرين على الجمع بين الكفاءة المهنية والمسؤولية الأخلاقية. وعلى صعيد المشروعات القومية الكبرى، جاءت برامج مثل مبادرة حياة كريمة باعتبارها منصات لإعادة تأهيل القوى العاملة وتزويدها بالمهارات التي تمكنها من الانخراط في أسواق جديدة قائمة على الابتكار وريادة الأعمال والاقتصاد الأخضر، وهو ما يعكس وعي الدولة العميق بضرورة الربط بين التنمية المستدامة ومهن المستقبل، بحيث يصبح الاستثمار في الإنسان هو الضمانة الأولى لنجاح الخطط الاستراتيجية على المدى الطويل، ويترسخ بذلك تجرية مصري تجمع بين بناء القدرات المهنية وغرس القيم الإنسانية في سياق تنموي متكامل. وتكشف التجربة الوطنية المصرية عن سعي الدولة الجاد إلى اللحاق بركب مهن المستقبل، والانتقال إلى موقع الفاعل والشريك في صياغة هذه المهن، من خلال المشاركة في المشروعات الدولية، والاستثمار في البحث العلمي، وتشجيع الابتكار لدى الشباب، ويوضح المشهد الذي يقدمه آلاف المبدعين المصريين في مجالات البرمجة والذكاء الاصطناعي والطب والهندسة والعلوم الإنسانية أبلغ دليل على أن مصر تمتلك رصيدًا بشريًا ومعرفيًا هائلًا يؤهلها للتحول إلى مركز إقليمي لتخريج الكفاءات القادرة على المنافسة عالميًا، بما يعزز حضورها في الاقتصاد المعرفي ويجعلها طرفًا فاعلًا في تشكيل المستقبل المهني. وهكذا تؤكد مصر، في رحلتها نحو استشراف المستقبل المهني، أن بناء الجدارات المتجددة هو ضرورة وطنية تعزز بقاء الدولة وترسخ استقلالها وتمكنها من حماية أمنها القومي وتثبيت موقعها كدولة رائدة في الإقليم والعالم، وبذلك يصبح الاستثمار في المهارات المستقبلية التقنية والإنسانية على السواء، استثمارًا في الإنسان المصري نفسه، الذي كان وما يزال الثروة الحقيقية والأصل في مسيرة الحضارة والنهضة، وركيزة صلبة لنجاح كل رؤية استراتيجية تتطلع إلى الغد. -- أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر