أضحى الذكاء الاصطناعي في عالم اليوم المحرك الأساسي للثورة الصناعية الرابعة، وأداةً استراتيجية تتسابق إليها الدول لتعزيز قدراتها التنافسية، ودعم كفاءة مؤسساتها الحكومية والخاصة، وتحقيق التنمية المستدامة بمفهومها الشامل، وأصبح الذكاء الاصطناعي ركيزة لتشكيل موازين القوة عالميًا، ومؤشرًا على مدى قدرة الدول على التكيّف مع المستقبل وصناعته. وقد أدركت مصر باكرًا أن امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي ضرورة لمواكبة التحولات العالمية، فبادرت عام 2021 إلى إطلاق الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي بقيادة وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، لتكون إطارًا شاملًا يعكس طموحات الدولة المصرية في التحول إلى مركز إقليمي ودولي رائد في هذا المجال، وشملت هذه الاستراتيجية تطوير البنية التكنولوجية والاستثمار في بناء الكفاءات البشرية، ودعم البحث العلمي، وتعزيز الشراكات الدولية، بما يضمن لمصر مكانة فاعلة في المشهد الرقمي العالمي. وجاءت هذه الخطوة منسجمة مع رؤية مصر 2030 التي تسعى لبناء اقتصاد رقمي تنافسي قائم على المعرفة وجعلت من التحول الرقمي والابتكار ركيزتين أساسيتين لتحقيق التنمية الشاملة، ويتجلى الطموح المصري في أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة لتمكين الإنسان، وتعزيز جودة الحياة، وتطوير الأداء المؤسسي، وصناعة مستقبل يتوازن فيه البعد التكنولوجي مع العمق الحضاري والهوية الوطنية. وتتمحور الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي في مصر حول جملة من الأهداف المترابطة، التي تشكل معًا الأساس لبناء منظومة وطنية قوية وقادرة على المنافسة إقليميًا ودوليًا، ويأتي في مقدمة هذه الأهداف بناء القدرات البشرية، حيث تركز الدولة على إعداد أجيال جديدة من الشباب المصري القادر على التعامل بوعي وكفاءة مع أدوات الذكاء الاصطناعي، ويتحقق ذلك من خلال دمج علوم البيانات والذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، فضلًا عن تقديم برامج تدريبية متخصصة مثل منحة مستقبلنا الرقمي، إلى جانب إنشاء شراكات مع كبرى الجامعات العالمية لتأهيل الكفاءات الوطنية وفقًا لأعلى المعايير الدولية. وتهدف كذلك الاستراتيجية إلى تعزيز البحث العلمي والابتكار، من خلال تشجيع الجامعات والمراكز البحثية المصرية على الابتكار والإبداع وإنتاج حلول ذكية وطنية تلبي احتياجات المجتمع والاقتصاد، وقد فتحت الدولة آفاق التعاون مع المراكز الدولية الرائدة في الذكاء الاصطناعي، بما يسمح بتبادل الخبرات، وتوطين التكنولوجيا، ودعم بيئة ابتكارية قادرة على المنافسة، ومن ثم أصبحت الجامعات المصرية شريكًا فاعلًا في صناعة المستقبل. كما يرتبط الذكاء الاصطناعي بخطط التحول الرقمي للدولة المصرية، حيث ينظر إليه كأداة رئيسية لتحسين جودة الخدمات الحكومية، ورفع كفاءة الإدارة العامة، وتعزيز الشفافية في صنع القرار، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي ضرورة لتحديث بنية الدولة وتعزيز ثقة المواطن في مؤسساتها، ومن جانب آخر تولي مصر اهتمامًا خاصًا بتشجيع الاستثمار والصناعة في قطاع الذكاء الاصطناعي. ويتمثل ذلك في توفير بيئة حاضنة للشركات الناشئة ورواد الأعمال، وجذب استثمارات أجنبية نوعية تسهم في بناء اقتصاد رقمي متكامل، كما يعتمد النجاح على توفير بيئة تشريعية وتنظيمية داعمة، تسهم في حماية الابتكار، وتشجع الاستثمار، وتضمن الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا، وبذلك ترسخ مصر مكانتها كمركز تكنولوجي إقليمي قادر على المنافسة عالميًا، جامعًا بين بعدين متكاملين بعد المعرفة والبحث، وبعد الصناعة والاستثمار. ولقد انعكست الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي مباشرة على إعادة هيكلة منظومة التعليم المصري في مختلف مراحله، بدءًا من التعليم المبكر وصولًا إلى التعليم الجامعي، فقد تم إدماج مفاهيم الذكاء الاصطناعي، والبرمجة، وعلوم البيانات، والتفكير الحسابي في المناهج الدراسية، بما يتيح تنشئة جيل يعتاد منذ طفولته على التعامل مع أدوات العصر الرقمي، ويتقن لغته الجديدة. وشمل تطوير المحتوى التعليمي نفسه باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل أنظمة التعلم التكيفي التي تراعي الفروق الفردية بين الطلاب، وتساعد على تقديم مسارات تعليمية مرنة تتوافق مع قدرات كل طالب وإمكاناته، كما تم اعتماد تطبيقات التحليل الذكي لقياس مستويات التحصيل وتقييم الأداء، مما أضفى على العملية التعليمية قدرًا أكبر من الشخصنة والكفاءة، ورفع من جودة المخرجات التعليمية، لتصبح أقرب إلى متطلبات سوق العمل المحلي والعالمي وقد خطت مصر خطوات واثقة نحو المستقبل على المستوى الجامعي بافتتاح كليات وأقسام ومعاهد متخصصة في الذكاء الاصطناعي، وإطلاق برامج دراسات عليا في علوم البيانات، والروبوتات، والأنظمة الذكية، وعملت على تعزيز البحوث التطبيقية وربطها بشكل مباشر باحتياجات الاقتصاد الوطني وسوق العمل، بحيث أصبح البحث العلمي أداةً فاعلة لتطوير الصناعة والزراعة والطب والطاقة، بدلًا من أن يظل نشاطًا أكاديميًا معزولًا عن متطلبات التنمية. وهكذا تحولت الجامعات المصرية إلى منصات بحثية ومعرفية تواكب المتغيرات العالمية، وتنتج حلولًا عملية تخدم المجتمع وتدعم التنمية المستدامة. وانطلاقًا من أن التعليم الجامعي لا ينفصل عن متطلبات سوق العمل، جاءت الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي لتسهم بفاعلية في إعداد الخريجين وتأهيلهم لمهن المستقبل، من خلال إدماج التدريب العملي والمشروعات التطبيقية في المسار الأكاديمي، ليصبح الخريج المصري شريكًا حقيقيًا في بناء الاقتصاد الرقمي، وقادرًا على المنافسة بقوة في الأسواق الإقليمية والعالمية، كما عززت الاستراتيجية من فرص نقل الخبرات وتوطين التكنولوجيا عبر شراكات دولية استراتيجية، مع الحفاظ على الهوية الوطنية والقيم الحضارية لمصر. وتمتد انعكاسات الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي على التعليم المصري لتشمل إعادة صياغة فلسفة التعليم ذاتها، حيث تتجلى عبقرية الرؤية المصرية في تحويل التعليم إلى مشروع حضاري متكامل لبناء إنسان رقمي راشد، يجمع بين التفوق العلمي والرسوخ القيمي، وبين الانتماء الوطني والانفتاح العالمي، وهكذا يغدو التعليم جسرًا حضاريًا يعبر بمصر من حاضر التحديات إلى آفاق الريادة، ويجسد في الوقت ذاته وفاءً لرسالة التاريخ وإحياءً لدور مصر كمنارة عريقة للعلم والفكر، فهي رؤية تجعل من مصر قوة مضيئة تهدي العالم طريقًا تتعانق فيه الروح مع التقنية، ويتكامل فيه الإنسان مع أدواته الحديثة، ليبقى سيدًا عليها، مسخرًا إياها لخدمة الخير العام، وصون الكرامة الإنسانية، وبناء مستقبل أكثر عدلًا ورقيًا.