حين نقول إن مصر بلد الحضارة فنحن نقول، في جوهر الأمر إنها بلد الفنون والصناعات والخيال، فالخيال هو الطاقة الخفية التي تدفع المجتمع إلى التفكير ثم الابتكار ثم الاتقان، وعبر سبعة آلاف عام راكمنا المعرفة والمهارة مما جعلنا أصحاب تأثير كبير على مستوى العالم أجمع، ولأننا ندرك أن مظاهر الحضارة تتبدل حسب الأزمنة، وأن الوسائط تتغير حسب الأدوات، لكن نعرف أن السؤال يظل: أين نقف من صناعاتنا الثقافية الكبرى خاصة السينما والمسرح والنشر، وكيف نعيد ضبط البوصلة كلما اضطربت المسارات؟ انطلاقًا من هذه الأسئلة، وشعورا بدورنا في إلقاء الضوء والتنبيه والبحث عن حلول فإننا نطلق سلسلة من الملفات والندوات المتخصصة، التي تقدم تباعًا، والتي نستضيف فيها صناع القرار والمسئولين والمتخصصين والمحبين والراغبين في المعرفة، وأهل المهنة من مخرجين ومنتجين وكتاب وناشرين وقراء، ونقاد وباحثين، إضافة إلى ممثلين عن الهيئات والقطاعات المختلفة، كي يدلوا بدلوهم في محبة المهنة والوطن والمساعدة في الوصول إلى قوة ناعمة تليق بمصر العظيمة التي تملك الكثير. وفكرة الملفات والندوات بسيطة وواضحة تقوم على طرح القضية، ثم تفكيك جذورها الواقعية (بنية تحتية، سياسات وتشريعات، تمويل وتوزيع، ضرائب ورسوم، تعقيدات تصاريح، خطوط تدريب ومهارات)، ثم ننتقل بعدها مباشرة إلى "خارطة حلول" قابلة للتنفيذ من خلال وصايا ومقترحات. وها هي البداية مع فن السينما المصرية، بكل تاريخها في صناعة الهوية المصرية، فهي واحدة من أكثر الوسائط التي أثبتت قدرتها في طرح رؤية المصريين لأنفسهم، فمن خلالها شاهدوا تاريخهم وحاضرهم وتوقعوا مستقبلهم، وعرفوا أماكنهم وبلدانهم، وتعرفوا على شوارعهم ولهجاتهم وأحلامهم وأسئلتهم، وبها وثقوا تاريخهم، وقيموا حاضرهم، وتطلعوا إلى غد يليق ببلد صنع الخيال، ولا يزال قادرا على صناعته، لكن صناعة السينما تقف اليوم موقفا لا تحسد عليه، موقف لا يليق بتاريخ تجاوز 125 عامًا، ومن هنا انشغلنا بالقضية وتساءلنا: كيف نعود إلى ما كنا عليه؟ وما الدور المنوط بالحكومة أن تنهض به؟ وما المطلوب من أهل المهنة أنفسهم؟ وكيف تصبح لدينا سينما تليق بنا حقًّا لا شعارات نطلق ثم نمضي إلى حال سبيلنا؟ إننا فى هذ الملفات نحاول أن نروى الحكاية ببساطة وعمق، ونفكر فى صناعة تعانى لأسباب عدة فقد تضاءلت أعداد دور العرض، وتعقدت فيها تصاريح التصوير ورسومه، وارتفعت الضرائب على التذاكر حتى خرج جزء من جمهور الطبقة الوسطى من المعادلة، وتراكمت بيروقراطيات تبطئ عجلة الإنتاج، فتتأخر الأفلام الجادة وتضيق الخيارات. وعلى الجانب الآخر، لا تزال المواهب موجودة، فلدينا مخرجون شباب وكبار، وكتاب، وفنيون، ومدارس تُخرج دفعات قادرة، لكن الجسور بينهم وبين السوق متهالكة، فنعاني في التمويل والبنية التحتية. لذلك صغنا أسئلتنا بصوت مسموع: ما الذى يمكن أن تقدمه الحكومة الآن؟ ثم التفتنا إلى دور الصناع مطالبين بمسئولية الفصل بين الأدوار لمنع تضارب المصالح والرهان على موضوعات جادة حية لا تستسهل النقل والتقليد. هذه السلسلة من الملفات والندوات هى فصول ستمتد لباقي الصناعات الإبداعية، قاصدين من ورائها محبة الوطن والاستماع إلى أصوات حقيقية قادرة على المساعدة، ونحن نفعل ذلك لأننا نؤمن بأن الحكومة شريك وأن الصانع مسئول، ولإيماننا بأن الصناعات الثقافية ليست ترفًا، بل هى اقتصاد إبداعى يوظف آلاف العاملين، ويؤثر في الوعي العام والصورة الذهنية لمصر، ولأننا أمام نافذة زمنية تتطلب قرارات عملية ترتبط بالتحديث والدعم، وتفعيل التشريعات وحقوق الملكية، وبناء قنوات تمويل مستدامة للسينما والمسرح والنشر.