فى التاسع من سبتمبر من كل عام، تحتفل مصر بعيد الفلاح، وهو يوم لا يمكن اختزاله فى مجرد مناسبة رمزية عابرة، بل هو ذكرى حيّة لمسيرة ممتدة من الكفاح والعطاء، فالفلاح المصرى لم يكن يومًا مجرد عامل فى الحقل، بل ظل دائمًا رمزًا للهوية الوطنية، وعمودًا فقريًا للاقتصاد، وحارسًا أمينًا على أمننا الغذائى، وإذا كان لكل وطن ركيزة يقوم عليها، فإن ركيزة مصر كانت وما زالت هى الفلاح. منذ آلاف السنين ارتبط اسم مصر بالفلاح، فعلى ضفاف النيل قامت الحضارة، وبجهد الفلاحين ازدهرت القرى والمدن، وتعاقبت الأجيال التى ورثت الأرض كما ورثت الانتماء، الفلاح المصرى هو الذى علم العالم الزراعة، وهو الذى جعل من الطمى نعمة أبدية، ومن النهر سرًا للحياة. ملامحه السمراء التى صقلتها الشمس، ويداه اللتان تشققتا من العمل، ليستا مجرد سمات جسدية، بل هما شهادة حية على رحلة صبر لا تنقطع، ففى كل حبة قمح، وفى كل عود أرز أو ذرة، تختبئ حكاية فلاح، وعرق سال فوق التراب، وإرادة لم تعرف الاستسلام. الحياة فى الحقول لم تكن سهلة يومًا، فالفلاح يواجه أعباء ثقيلة تبدأ من تكاليف الإنتاج الباهظة، ولا تنتهى عند تقلبات المناخ القاسية، مواسم شحيحة بالماء، وأسعار لا ترحم، وأرض تحتاج دومًا إلى من يحافظ عليها ويرعاها، ومع ذلك، ظل الفلاح وفيًا لأرضه، يقاوم الصعاب، ويزرع حتى أن كان العائد ضئيلاً، لأنه ببساطة لا يتصور أن تظل الأرض عارية بلا زرع. وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة، فبينما يردد البعض باستخفاف عبارة "إنت فلاح" وكأنها تقليل من شأن، تأتى الحقيقة لتقول العكس تمامًا، أن كلمة "فلاح" ليست سبة بل شرف، وليست انتقاصًا بل وسامًا، أن تكون فلاحًا يعنى أنك امتداد لتاريخ يسبق الحضارة نفسها، وأنك من يزرع الحياة فى أرضها، ويكتب قصة الوطن بعرقه وصبره، ومن يرددها باستهانة لا يدرك أنه يستخف بجذر الأمة وصانع قوتها وأساس وجودها. إن علاقة الفلاح بأرضه أبدية تتجاوز الحسابات الاقتصادية الباردة، علاقة أشبه بعهد مقدس، يرى فيه الفلاح الزراعة قدرًا وانتماءً وكرامة لا تقبل التفريط، وهذه الروح هى التى أبقت مصر واقفة فى وجه الأزمات، قوية مهما كان حجم التحديات. ويكتسب عيد الفلاح رمزيته من قرار تاريخى صدر فى مثل هذا اليوم عام 1952، حين أطلقت ثورة يوليو قانون الإصلاح الزراعى الذى حرّر الفلاح من قبضة الإقطاع، ومنحه لأول مرة حقًا حقيقيًا فى امتلاك الأرض، فلم يكن ذلك مجرد تعديل تشريعي، بل كان ثورة اجتماعية غيرت ملامح الريف المصرى ورسخت قيمة العدالة. واليوم، وبعد ثلاثة و سبعين عامًا، تواصل الدولة ما بدأته الثورة عبر مشروعات قومية كبرى مثل مشروع الدلتا الجديدة واستصلاح الأراضى، وتطوير نظم الرى، فضلًا عن مبادرات مثل "حياة كريمة" التى تعيد للقرية المصرية مكانتها، وتدعم صغار المزارعين والمربين، إنها سلسلة ممتدة من الجهود تؤكد أن الفلاح سيظل فى قلب مشروع الدولة الوطنية. إن عيد الفلاح ليس مناسبة لتبادل التهانى والكلمات الرنانة، بل هو دعوة للتأمل والإنصاف، إنه اليوم الذى ينبغى أن ننصت فيه لصوت الفلاح ونمنحه الاعتبار الذى يستحقه، فمن حقه أن ينال حياة كريمة، وعائدًا عادلًا يتناسب مع جهده وتعبه. فالفلاح لا يطلب رفاهية، بل يطلب اعترافًا حقيقيًا بقيمة عمله، وأن يرى ثمرة جهده تعود عليه وعلى أسرته كما تعود على الوطن بأسره، ومهما تحدثنا عن التنمية أو الأمن الغذائى أو الصادرات الزراعية، فإن الأصل فى كل ذلك رجل بسيط يخرج مع الفجر إلى حقله، ويعود عند الغروب مكتفيًا بالقليل ليمنح الآخرين الكثير. فلنرفع التحية لذلك الرجل البسيط العظيم، الذى لم يعرف سوى العمل فى صمت، ولم يتوقف عن العطاء حتى وهو يواجه أقسى الظروف، أن تكريم الفلاح هو تكريم لمصر ذاتها، فمصر لا يمكن أن تختصر فى مدنها الكبرى أو صناعاتها الحديثة، بل هى تبدأ من الحقل، من البذرة، من يد فلاح تمسك بالفأس وتكتب بها قصة وطن لا ينتهي.