يقف نتنياهو اليوم على النقيض من سلفه البعيد إيهود أولمرت، أو العكس. لكن وجوه التشابه بينهما عديدة، أو على الأقل يستضىء رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالى بتجربة السابق، ويحاول الاستدراك عليها بأثر رجعى. من غزة إلى جنوبلبنان، كانت الفرصة سانحة قبل نحو عقدين، أو هكذا يرى زعيم الليكود، ويسعى إلى إعادة إنتاج اللحظة نفسها، بإغفال عظيم لاختلاف الظروف والتوازنات. كان زعيم كاديما بخلفيته اليسارية الموصولة بتراث الآباء المؤسسين، طرفا مباشرا فى جولة حروب إقليمية ساخنة. اشتبك مع حزب الله فى يوليو 2006، ثم صعّد باتجاه حماس فى القطاع مطلع العام 2008، ما نتج عنه الدفع باتجاه اختراق الحدود المصرية، ولعل نتنياهو يعض أصابع الندم على تلك الفرصة، ويُمنّى النفس بتكرارها وصولا إلى أهدافه المعلنة بشأن التهجير وتصفية القضية الفلسطينية. أولمرت العجوز يختلف نسبيا عما كان عليه فى السلطة. يتوب ضمنيا عن ماضيه الدموى، لا بالاعتذار عما جناه على اللبنانيين والغزيين، بل بالاكتفاء باستهجان ما يحدث شمالا، وتوصيف الحادث على الجبهة الجنوبية بأنه إبادة جماعية كاملة الأوصاف. أما الشبه الأكبر فيعود إلى خروجه من الحُكم للسجن، متهما بالفساد وتلقى الرشى، فى دراما تلاحق نتنياهو حاليا، ويبدو أنها ستقوده إلى المصير ذاته. وبعيدا من الشعبوية الصارخة، أو تعقل المتقاعدين بعدما تجاوزتهم قاطرة السياسة وآمال العودة؛ فإن كثيرا مما يُدار فى الساحة العبرية وكواليسها لا يخرج عن منطق الكيد والمزايدة وصراعات الأيديولوجيا، ولا يتجاوز نطاق الفسحة الجدلية التى تُبدل ملامح اللاعبين بحسب موقعهم من السلطة؛ فيصير السفاح حكيما لمجرد التصويب على المنافسين، أو لتوزيع أدوار محسوب تماما بين أركان العصابة الواحدة، بحيث يتولى الحاكم مهمة القتل، ويضطلع المعارض بغسل السمعة واصطناع التوازن. ولو كان نتنياهو على رأس الأغلبية بين مايو 2006 ومارس 2009، أو كان أولمرت قائدا للائتلاف المهيمن على الكنيست منذ أواخر 2022 حتى اليوم؛ ما اختلفت النتائج فى الحالين: الأول كان سيشتبك مع الحزب ويصب الرصاص على القطاع، والثانى لم يكن ليتأخر عن الإبادة الحادثة فى غزة أو الاحتلال الثقيل وتجاوزاته المتوالية وراء نهر الليطانى. والقاعدة نفسها تحكم الباقين: زعيم المعارضة يائير لابيد بمناوشاته الدعائية الساذجة، أو قطب الوسط بينى جانتس بتردده المتكرر بين الدخول فى كابينت الحرب والخروج منه ثم السعى للعودة إليه مُجددا. ولعل سفاح اللحظة الراهنة نادم فعلا على أنه لم يكن صاحب القرار بدلا من أولمرت؛ لأن كسر الحدود وعبور آلاف الغزيين إلى سيناء هو أقصى ما يتمناه اليوم، ولا يعرف له سبيلا، ويتحسب إزاءه من ضغوط الداخل والخارج، ومن الغضبة المصرية المتصاعدة بكل ما فيها من احتمالات، فضلا على تزعزع سردية الحرب وانقضاء فاعلية الدعايات الملفقة ما بعد «طوفان السنوار». ينظر نتنياهو لنفسه من زاوية مغايرة للغاية، ويعتبر أنه قيادة استثنائية وغير متكررة فى تاريخ إسرائيل. لديه ملاحظات عميقة على سابقيه جميعا، وعندما سنحت له فرصة التعبير عنها بوضوح، كان شريكا مباشرا فى دم إسحاق رابين، بالتحريض عليه أولا، ثم بوراثة موقعه والانقلاب على خياراته. ومناط فخره الوحيد على امتداد رحلته الأطول فى السياسة والإدارة، أنه الوحيد الذى لم يمنح الفلسطينيين شيئا، ولم يترك هامشا لحل الدولتين كى يتنفس ويظل صالحا للإنفاذ. وحتى عندما اضطر للحديث عنه قبل خمس عشرة سنة تقريبا؛ كان لمجرد مجاراة أوباما بعد خطابه فى جامعة القاهرة، وامتصاص حماسته مؤقتا لحين إعادة الأمور إلى نصابها، وتجديد أجندة الإلغاء وصبغ الخريطة بين النهر والبحر بلون واحد. وآخر مقارباته الزاعقة، أنه صرّح علنا بقدرته على فتح أبواب الجانب الفلسطينى من معبر رفح، ليُغادر الراغبون من أهالى غزة طوعا بحسب تعبيره، لكنه يعرف أنه سيُغلَق من جهة مصر فورا. زاعما أن القاهرة تفضل سجن الغزيين فى منطقة الحرب، وتقييد حركة الساعين منهم إلى المغادرة. وفساد المنطق يبدأ من الاحتيال على الحقيقة، ومحاولة تصوير المسألة كما لو أنها مجرد كارثة طبيعية، أو ضغوط ناشئة عرضا وبالمصادفة على حياة الآلاف فى بيئتهم الأصيلة، وليست عدوانا مقصودا ومتواصلا لنحو سنتين كاملتين، وجرت ترقيته بمنهجية واضحة من رُتبة الحرب إلى درجة الإبادة الجماعية، بما تنطوى عليه من إفراط فى القتل والترويع، وتجفيف لسبُل العيش وإمكانية التعافى والإعمار، وبحيث تكون غزة بيئة طاردة لأصحابها، أو مصيدة موت دائمة للصامدين منهم والمتشبثين بالوطن والقضية. وعلى كل ما فى الكلام من تبجح فج؛ فإن موضوع الاعتراف ليس أهم ما ينطوى عليه حديث زعيم الليكود ومواقف عصابته الحاكمة. الصورة واضحة منذ اليوم الأول، ولا حاجة للجدل أو التأويل فيما يطل برأسه صريحا من بين الأنقاض؛ لكن الجديد الذى يشف عنه المضمون أن الحصار لم يكن أصلا لخنق حماس أو ملاحقتها كما زُعم سابقا؛ بل للضغط على المدنيين العزل بغرض كنسهم عن الجغرافيا، ومنحهم تذكرة سفر باتجاه واحد. لهذا؛ يُغلَق المعبر بالمتاريس العسكرية المتركزة فى محور فيلادلفيا، ويُراد تحويله من قناة إنسانية مفتوحة فى الاتجاهين، إلى صمام تطهيرى ينزح ولا يستقبل، ويصد التغذية الراجعة إن كانت من شاحنات الإغاثة، أو من البشر المتمسكين بحق العودة قريبا أو لاحقا. لا يعترف النازى المسعور بأنه المسؤول عن الإغلاق فحسب؛ بل يُجاهر برغبته المضمرة فى ألا يُفتح الباب سوى على طريق الرحيل الأبدى. ما يقدم شهادة دامغة لصالح الموقف المصرى الصلب منذ اللحظة الأولى، بأن يكون رفح رئة تشهق وتزفر بالتساوى، ولأجل أن تحافظ على بقاء الغزيين وحياتهم فوق أرضهم، وتغيث المنكوبين منهم بموعدة الرجوع لا التهجير. وقد تُرجم ذلك باكرا بإغلاق الأبواب على حملة الجنسيات الأجنبية إلا بمقابل يتيح إجلاء المرضى وإنفاذ المساعدات، ثم بالتمسك بأن يكون التشغيل تحت ولاية فلسطينية من الجانب الآخر، وكما كان الحال فى اتفاقية المعابر بعد فك الارتباط فى العام 2005، وليس بمقتضيات الأمر الواقع عقب الاجتياح الشامل وهيمنة الاحتلال على أنحاء رفح الفلسطينية. حديث نتنياهو معناه أن أية مطالبة بتشغيل المعبر خارج الضوابط والتوافقات القانونية، لا معنى لها إلا الدفع باتجاه التهجير وتصفية القضية. هكذا يتلاقى اليمين الصهيونى المتطرف مع اليمين الإسلاموى من الإخوان وبقية الأطياف الأصولية، ويتكشّف أن دعاوى الرجعية الدينية لم تكن تتقصّد الإنقاذ أو المصلحة الوطنية، بقدر ما تُوظّف المأساة الإنسانية ورقة للمكايدة والابتزاز السياسى؛ ولو كانت تتيقن تماما أن من الآثار الجانبية لذلك إعانة الصهاينة على تنفيذ مخططهم، وتطهير الأرض من أهلها، وإزاحة الصراع مكانيًّا بما يضيّع فلسطين، ولا يُجنّب الحاضنة العربية كُلفة الأخطار الوجودية والأمنية الناشئة عن تسييل الخرائط وتمكين العدو من مفاصل القضية العادلة. وعلى ضوء كلام نتنياهو الأخير، تكتسب دعاوى التظاهر وحصار السفارات المصرية بالخارج معانى جديدة شديدة الإزعاج، ويتوجب النظر إلى أشد صورها فجاجة عندما وقف إخوان تل أبيب فى حماية الشرطة الإسرائيلية، يتهمون القاهرة زورا بالمسؤولية عن حصار غزة، ويدعون ضمنيا إلى إذابة خط الحدود الصلب تحت زعم الإغاثة، فيما المقصود أن يلين الجدار الحامى للحقوق الفلسطينية ويقبل العبور فى الاتجاهين، وسرعان ما ستُختزل المسيرة فى اتجاه واحد قطعا؛ لأنه لا وجه للمفاضلة فى زمن الحرب، ولا سبيل تحت النار والبارود والمجاعة المصنوعة قصدا إلا بالتماس النجاة. وبهذا؛ فإن تحريف السردية يخدم الغُزاة حصرا، ويُصوّب على الطرف الخطأ، وينقل المظلمة من كاهل الصهيونية الغاشمة، إلى اشتباك ثنائى بين طرفين معنيين بالقضية الفلسطينية بالدرجة نفسها. فالخصومة مع الجيش العدو، وموضوع النزاع فيها يبدأ من الحرب ويمتد للحصار، ولا طرف آخر له صلة بالنكبة المعتمدة، أو يصح إلحاقه بها على أى وجه، خصوصا لو كان الاستدراج خادما للجناة لا الضحايا. الثابت الأساسى أنه لا محيد عن ملكية الفلسطينيين لأرضهم، أقله بموجب قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 1947. وعليه؛ فالأوزان الديموغرافية فرع على أصل بالأساس، بمعنى أن الشتات الفلسطينى الواسع فى أرجاء الأرض لم يغير من الحجية القانونية للصيغة التى أُنشئت إسرائيل عليها، ويُفترَض ألا تكتمل شرعيتها أصلا إلا بإنفاذ مقتضياتها الكاملة. وسواء بقى ملايين الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية، أو أُجبر الآلاف منهم على المغادرة تحت أى ظرف؛ فإن ما يحق للكثير ينتقل مباشرة للقليل، ولا فارق بين أن يظل الجميع رابضين على أرضهم، أو تتقلص الأعداد بالقتل والتجويع والتهجير. هنا تتبدّى نوايا إسرائيل الحقيقية؛ لأنها أكثر العارفين بانعدام فرص التسوية من دون منح الفلسطينيين حقوقهم العادلة، ولا بديل آخر لديها سوى تطهير الأرض من ساكنيها بالجملة والإطلاق، وما دون ذلك لا يعدو أن يكون تخفيفا عابرا للأحمال، وترحيلا للصدام إلى أجل جديد. ما يعنى أن فكرة المغادرة الطوعية فخ يُراد منه تطبيع مسألة التهجير أولا، وغض الطرف أن الأغلبية المتمسكة بالبقاء والرافضة بكل الصور للتفريط فى وديعة الآباء والأجداد. أما النقطة الأهم؛ فخلاصتها أنه لا مجال أصلا للحديث عن هجرة طوعية، لا سيما أنها تُساق تحت غطاء الحرب الوحشية، وفى ظروف غير طبيعية ولا آدمية تماما. إذ لا طوع ولا اختيار حينما يكون التخيير بين الرحيل أو الموت قتلا وجوعا، وهو ما أعاد وزير الخارجية بدر عبد العاطى تأكيده مجددا فى مؤتمره مع مفوض وكالة أونروا أمس، بالقول أن الحديث عن الطوعية فى سياق الإبادة الممنهجة هراء، وهو أقرب إلى الاستخفاف بالعقول، لأنه يُخيّر المنكوبين العُزّل بين خسارتين، أو وجهين للموت والإبادة: أن تفقد الحياة الطبيعية أو الحياة إجمالا فى الوطن، أو تفقد الوطن لصالح البقاء تحت ظل للحياة أو ما يُشبهها من بعيد. الطوعية غائبة منذ ثمانية عقود؛ وليس اليوم فقط. لم يحصل الفلسطينيون على حقوقهم أو تتجسد دولتهم أصلا؛ ليكون لهم الخيار بين الإقامة فيها أو الرحيل عنها. النكبة الأولى ما تزال جريمة مفتوحة ومتواصلة، وأُضيفت لها اليوم نكبة ثانية أشرس وأكثر توحشا فى قطاع غزة، ومخططات لقضم الأرض وإحلال المستوطنين بدلا مُلّاك الضفة الغربية الفعليين. شرعية إسرائيل منقوصة أصلا لأن ولادتها رُبطت عضويا بولادة فلسطين، وبدلا من البحث عن الاعتراف بالأخيرة اليوم، قد يُستحسَن أن تتجه الجهود إلى نزع الغطاء عن الكيان الملفق لدولة الاحتلال، أو إعادة المنازعة إلى صورتها الأولى النقية، والتغاضى عن ركام القرارات المهملة وغير المفعلة، نزوعا إلى بنود التقسيم وحدها دون شريك أو دخيل عليها. وربما أيضًا محاولة إحياء القرار الأممى رقم 3379 الصادر فى نوفمبر 1975 باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية؛ لأن إسقاطه جاء فى سياق تفاهمات مدريد وما أفضت إليه لاحقا فى اتفاقية أوسلو، وبعدما انقلبت تل أبيب عليها فكأنها انقلبت على الترضية والتسهيلات التى مُنحت لها مقابل التوصل إلى صيغة تعايش موضوعية قابلة للإنفاذ، بالضبط كما انقلبت على شرط وجودها القانونى فى 1948 و1967 وكل محطات العدوان التالية. نتنياهو لص مثل أولمرت، وكلاهما سفّاح دموى فاسد. وإذا كان هتلر تل أبيب اليوم يحسد سلفه على سانحة اقتحام الحدود قبل سبع عشرة سنة، وما يراه فيها بأثر رجعى من فرصة للتهجير واقتطاع غزّة من أهلها؛ فيجب ألا تكون مقاومة الخطط الآن كسابقاتها، ولا بالتسامح نفسه مع المٌسبِّبات الحقيقية العميقة للفوضى والتوتر. حماس وقتها حفّزت الغزّيين على الخطوة، وأحدثت لهم فجوة الجدار التى عبروا منها، مثلما يُمثّل «الطوفان» راهنًا الفجوة الأكبر فى بناء القضية؛ إنما تظل وحشية الصهاينة وعدوانهم وتماديهم فيه الباعث المباشر على تضييع السياسة واستدعاء الحرب بوتائر مُتقطّعة. مصر راسخة على موقفها، وجاهزة لكل التداعيات من أدناها إلى أعلاها؛ إنما يتعيّن على الباقين أن يحذوا حذوها، وأن يلعبوا دورًا حيويًّا نحو تصليب القضية وتثبيت أهلها، وسَلب الذرائع من أسوأ حكومات اليمين المتطرف فى إسرائيل. الفصائل مَدعوّة على وجه الاستعجال للانخراط فى ورشة إصلاحية وجودية لا تقبل الإرجاء، ودول الاعتدال عليها أن تُكثّف الجهود والضغوط، والمجتمع المدنى هُنا وفى الخارج عليه مهامّ قد لا يقدر عليها سواه، ولا تقل أهمية عن نضالات الدبلوماسية والقّوة الناعمة والأمعاء الخاوية. من المهم مواصلة موجة الاعترافات الدولية بفلسطين؛ إنما الأهم أن يواكبها اشتغال وطنى على إنهاء الانقسام واستعادة التلاحم بين كل المكونات، وإغناء الشرعية المُمثّلة فى منظمة التحرير بانضواء الجميع تحت رايتها، وطرح بدائل إدارية ونظامية قابلة للتفعيل وقادرة على الإقناع، وبما يُطوّق خُطط النازية الصهيونية ويُحاصر باقة أهدافها التى لم تعُد خفيّة، وتزداد خطورة بالصمت المتواطئ أو الإسناد الظاهر من جهة الولاياتالمتحدة وغيرها. السعى لاستيلاد فلسطين من غبار الحرب وضباب الضياع، لا يغنى عن مُلاحقة إسرائيل أمام المنظمات الأممية، وتنشيط الجهود المدنية لمُلاحقة الأفراد من الجنود والسياسيين ومقاضاتهم، وإطلاق حملات دولية لنزع شرعية إسرائيل وتقويض الاعتراف بها. وإن كان صعبًا أن تنقلب الدول عليها، أو لا قيمة لانقلابها، فليس أقل من إثارة مسألة المشروعية المؤسّسة على قرار التقسيم، وانعدام صلاحية أو منطقية أن يُفَعَّل أحد شِقَّى القرار، ويُغَضَ الطرف عن النصف المُكمِّل والمُتَمِّم له، وإذا كان الجناح الفلسطينى مكسورًا؛ فالمُقتَضَى المُتولِّد عن هذا ألا يستطيع الجسم العِبرى التحليق أصلاً. كان الطوفان خطيئة السنوار وحماس؛ وقد سدّدت غزّة أضعافه من لحم أهلها ودمهم ومعاشهم. الحرب الدائرة منذ عامين إلا شهرًا جناية نتنياهو وائتلافه بالفعل، ومسؤولية إسرائيل كلها بالنيّة والإرادة والتغطية. إنها قرار حكومة وجريمة دولة، ويجب ألا نتورّط فى تحريف السردية، أو ننخدع بدعايات الاشتباك والخلافات الداخلية وتظاهرات الشارع اليهودى. الغاضبون يطلبون إرجاء الإبادة لِمَا بعد استعادة الأسرى، والمعارضة السياسية تتمنّى لو كانت على مقعد الدبابة بدلاً من ذئب الليكود، وتُجّار الضمير يغسلون وجه البلد ليتسنّى لهم الانتفاع بعوائد الإبادة دون الالتزام بسداد أعبائها من الوَصم والإدانة وتوصيف الجميع بصفة القاتل المباشر والفاعل الأصلى. يعترف نتنياهو بمسؤوليته عن إغلاق معبر رفح، ومن وراء ذلك تطفر جرائم الحرب والإبادة الجماعية وتسليح الطعام والمؤون ولو أنكرها. الإخوان لا يستنكفون التضحية بالبلاد والعباد طالما يصبّ ذلك فى صالحهم، أو يكيد خصومهم السياسيين. وعلى حماس أن تكون أكثر جرأة فى القطيعة مع تلك الخطابات الصهيونية المُستترة، وأن تصطف بوضوح مع شعبها وسُلطته الشرعية، ومع الحُماة الحقيقيين للقضية الفلسطينية من حزامها العربى اللصيق. كانت الحركة قد أعلنت الانفصال عن التنظيم الدولى للإخوان فى 2017؛ لكنه ظل كلاما على الورق لا على الأرض وفى المجال العام. الصهاينة لا يُفرّقون بين مقاتل ومُسالم، ونتنياهو يُعادى الجوار مثلما يكره الفلسطينيين فى الضفة والقطاع. الأهداف مُعلنة والاصطفافات لا تقبل الرمادية والتجزئة؛ فإما أن تكون مع فلسطين أو ضدّها، والأخيرة يكفى فيها أن يتشابه خطابك مع العدو وأطماعه بأية درجة، أم الإسناد فلا طريق له إلا أن تكون على الجانب المقابل تمامًا، ولا طرف يُمثّل هذا الجانب اليوم أفضل من مصر والمصريين، شاء من شاء وأبى من أبى.