في صباح يوم لا يُنسى -أول أيام انتخابات مجلس الشيوخ 2025- وبين أزقة الحارات الهادئة والشوارع التي بدأت تنبض بالحركة، استيقظت مصر على مشهدٍ يليق بعراقتها، وظهرت طوابير ممتدة، رجال ونساء، شباب وكبار سن، يخطون نحو اللجان الانتخابية في صمت يكسوه الإصرار، وكأن الجميع على موعد مع مشهد وطني استثنائي، كان اليوم الأول من انتخابات مجلس الشيوخ، لكنه بدا كأنه امتحان للوعي، ونجح فيه الشعب المصري بدرجة امتياز. في حي شبرا، حيث تتداخل الثقافات والشرائح الاجتماعية، خرجت الحاجة "فوزية" –وهي سيدة سبعينية– متكئة على عصاها، متوشحة بعلم مصر، قائلة لابنتها: "أنا صوتي أمانة.. وهاروّح انتخب"، لم تكن تعرف الكثير عن تفاصيل المجلس أو عدد المقاعد، لكنها كانت تدرك تمامًا أن مشاركتها هي صرخة في وجه كل من يشكك في وعي هذا الشعب. وعلى الجانب الآخر من العاصمة، في مدينة نصر، كان "أحمد"، شاب في منتصف العشرينات، يقف وسط رفاقه بعد انتهائه من التصويت، يشرح لهم ببساطة لماذا شارك: "مش لازم أكون سياسي علشان أمارس حقي، دا واجبي، وبعدين المجلس دا مهم في القوانين والسياسات طويلة المدى".. هذه الكلمات جاءت من شاب لم يكمل عامه الجامعي الأخير، لكنها كانت تكشف عن فهم عميق لدور مجلس الشيوخ في دعم الحياة النيابية وتعزيز الاستقرار التشريعي. تلك المشاهد لم تكن حكرًا على المدن الكبرى، بل امتدت إلى القرى والنجوع، ففي إحدى قرى محافظة الغربية، خرج أهالي القرية في مجموعات بعد صلاة الفجر، وكأنها زفة انتخابية، و"البلد محتاجة كل صوت".. قال العمدة وهو يقود المسيرة الصغيرة نحو اللجنة، وكانت السيدة "زينب"، فلاحة بسيطة، تصر على الإدلاء بصوتها رغم التعب: "أنا يمكن ما بفهمش في السياسة، بس لما الريس يقول شارك، أشارك.. دي بلدي ولازم أقف جنبها". اللافت في اليوم الأول لم يكن فقط الحضور الكبير، بل التنوع الواسع في الفئات المشاركة، فظهر الموظف والعامل، ربة المنزل والطالبة، الجميع توحدوا تحت مظلة الوعي، في مشهد يعكس نضوجًا سياسيًا قلّما يظهر بهذا الوضوح. حتى ذوي الاحتياجات الخاصة أصروا على التواجد، يحملهم الأهل أو يسيرون بعكازات، وكأن لسان حالهم يقول: "نحن هنا.. ومشاركتنا واجب قبل أن تكون حقًا". لم يكن اليوم مجرد ممارسة انتخابية عابرة، بل كان بمثابة رسالة للعالم، بأن مصر، بتاريخها وثقافتها، لا تزال تملك شعبًا حيًا، يعِي، ويُحسن الاختيار، وعلى عكس ما يظنه البعض أن الوعي السياسي حكر على النخبة أو الطبقات المتعلمة، أثبتت الوقائع أن المواطن البسيط، الذي ربما لا يتابع نشرات الأخبار بانتظام، لديه حسٌّ وطني فطري يدفعه للمشاركة حين يُطلب منه ذلك. وقد ظهر جليًا أن الحملات التوعوية التي سبقت الانتخابات –سواء من جانب الهيئة الوطنية للانتخابات أو وسائل الإعلام أو حتى المبادرات الأهلية– قد نجحت في إعادة تعريف العلاقة بين المواطن وصندوق الاقتراع، ولم تعد المشاركة الانتخابية مجرد عبء ثقيل أو مشهد روتيني، بل أصبحت مسؤولية يتشاركها الجميع. في نهاية اليوم، بدا المشهد كلوحة مصرية متكاملة الألوان، فالوجوه ظهرت متعبة لكن راضية، والأقدام أنهكها الوقوف لكنها تشهد على خطوة نحو مستقبل أكثر رسوخًا، ولم يكن أحد في حاجة إلى شعارات رنانة أو وعود سياسية، فالحضور وحده كان كافيًا ليكتب شهادة نُضج سياسي شعبي، فاليوم الأول من انتخابات مجلس الشيوخ جاء كصفعة لكل من ظن أن الوعي قد غاب عن الشارع المصري، فقد أثبتت مصر أنها وإن مرّت بتحديات، فإن شعبها لا يزال يملك البوصلة.