تأخذ الإدارة الأمريكية بزمام العالم إلى حيث يسيرها الهوى؛ إلا مع بنيامين نتنياهو، فأهواؤه حاكمة لهواها، ويتصرّف فى المسائل المشتركة كما يعنّ له، حتى أنه لا يستجيب لها بالإغراء أو الترهيب. والشائع أنه أرخى ظلال الحرب على الجغرافيا الإيرانية بإرادة فردية، وقصف مرافق الحكم فى دمشق بعد أحداث السويداء دون مشاورة أو ضوء أخضر، ويواصل التفلت من ورشة الهدنة الغزية، مع علمه برغبة واشنطن فى وضع فاصلة تمهد للجملة الأخيرة من دراما الطوفان. كأنه ثور هائج على الجميع؛ حتى شركاء الحظيرة الواحدة. علاقة البلدين ليست عادية، ولا تُقاس بالأحجام واعتبارات السياسة والمصلحة المجردة. يملك ترامب أن يُملى إرادته على الحليف الصغير؛ لكنه لا يفعل لأسباب شتّى، أهونها أنه لا يريد إغضاب قاعدته المؤيدة لإسرائيل، أو التضحية بصورة الشريك المثالى وصاحب الإسهامات التاريخية غير المسبوقة. أمّا أشدّها فيعود إلى نزعة استقلالية تتسلط على ذئب الليكود العجوز، يُغذيها الاطمئنان إلى أن الوالد لن يضيق بولده مهما فعل، قد يغضب منه أو يُغلظ القول؛ لكنه سيصفو له سريعا ويصفح عن زلاته، ومهما بلغ به الضيق مبلغه سيظل من داخله سعيدا بالابن الذى يشب عن الطوق، ويُثبت جدارته ولو بالتمرد على السلطة الأبوية نفسها. يصح أن تُحمَل الرخاوة هنا على العجز عن ترويض الحكومة اليمينية فى تل أبيب، أو الاشتراك فى لعبة تتوزع أدوارها بمنطق محسوب؛ إنما لا يمكن غض الطرف عن أن «طوفان السنوار» حمل معه بذور الانحراف الراهن، فيما انطوى عليه من إرباك وتغيرات حادة فى الشكل والمضمون. كانت العملية أكبر من الابتلاع أو التمرير، وتلقاها نتنياهو على شوق واحتياج عظيمين؛ ليُفلت بها من المحنة الداخلية والفخاخ التى كانت تترصده. غير أن استباقها لموسم الانتخابات الأمريكية بنحو سنة تقريبا، لم يكن خيارا حصيفا على الإطلاق، لأنها فترة أقصر من الاحتواء وأطول جدا من إمكانية الصمود، فيما كان بايدن يتطلع لولاية رئاسية ثانية، فلم يكن متوقعا منه إلا أن يُذخّر البنادق ويحشد قواه لصالح الدولة العبرية، وهو الميراث الذى انتقل بحذافيره للوريث فى ولايته الثانية. أفرط السيد دونالد فى تخطئة «جو النعسان»، وادّعى أن الحرب ما كانت لتندلع أصلا لو كان فى الحُكم؛ ولأجل أن يُثبت نظريّته فى الشق البسيط فرض التهدئة فى يناير من فوق رؤوس الغريمين المتحاربين. أما إثبات الفرضية الكبرى؛ فيستدعى الوصول إلى تسوية لها رائحة العقل وفاعلية الجنون، بمعنى أن يُستكمَل القتال حتى النقطة التى تُرضى صقور الصهيونية، ولا يتوقف إلا على قاعدة تُؤمّن إطاحة حماس من المشهد، فينتصر لمبدأه الراسخ عن «السلام من خلال القوة»، ويطمئن إلى استحالة أن يتجدد الصراع فى سنواته الباقية، وربما لعقود طويلة مقبلة. وضع الحماسيون رقابهم على المذبح دون ضرورة معجلة، وبلا أى منفعة ظاهرة أو خفية. وإذ يفتشون اليوم عن ثغرة للنجاة؛ فإنهم يحتكمون للعدو بعدما حكّموه فى القطاع ومصيره راهنا وعلى المدى البعيد. كانت القوة فخا عميقا فى حضورها، وما يزال لها نفس الأثر بعد انحلالها وتفكك دعائمها. فى الأولى أغرت أصحابها بالمغامرة، وتكبحهم فى الثانية عن الاعتراف بالهزيمة والتقاط الصفقة المتاحة بأقل الأضرار. أما جوهرة المآسى فتعود إلى إصرار الحركة على أن تكون عنوانا لمشهد اليوم التالى، وإلا فأهلا بتضييع الأيام والعناوين. فى ولائم السياسة الكبرى، إن لم تحجز مقعدا على الطاولة، فغالبا ستكون طبقا ضمن لائحة الطعام. وما يحدث اليوم أن الفصائل غير مدعوة أصلا، ويُدار التفاوض معها بصيغة غير مباشرة. ما يعنى أن الاتفاق المأمول لن يستجلب للاعتراف كما يتوهم مفاوضو حماس، غير أنهم يحرمون فلسطين نفسها من فرصة أن تكون طرفا أصيلا فى قضيتها. ومن البديهى أن يكون نتنياهو أول المرحبين بتلك الصيغة الاختزالية البائسة، لهذا كان يقول قبل الطوفان إنه يرفض «فتحستان وحماس ستان» بالتساوى، وظل على النغمة ذاتها بعد جرائمه الشنيعة فى غزة؛ بل إنه يجلس مع الثانية ولو من وراء حجاب، ولا يترك هامشا للأولى مهما كان ضيقا ومختنقا بالمنغصات. كان ساعيًا منذ البداية، وحسبما أعلن، إلى إفناء القوة الحماسية وشطبها تماما من معادلة القطاع. وقيل الكثير بشأن استحالة المطلب ولا معقوليته، وأن الحركة فكرة أيديولوجية والأفكار لا تفنيها النار. ولعله بالخبرة وعمق الاطلاع على التركيبة الأصولية كان عالما بتلك الخلاصة؛ إنما ظل يتخذ من الراية الخضراء منصّة لإذكاء الروح الإفنائية والحفاظ على الميدان مشتعلا. صحيح أنه يُحب ألا يرى عناصر القسام مُجدّدا؛ لكنه إن خُيّر فى الأمر بينهم والسلطة الوطنية، فسيختار البندقية العاطلة على السياسة الذابلة؛ انطلاقا من أنه يدمن العيش على حد السكين، ويجيد توظيف الخشونة واستدراجها والنيل منها، فيما لا يعرف وصفة نهائية للتعاطى مع القانون والشرعية والتزاماتهما الناعمة، والعصية على الصواريخ والقنابل الثقيلة. يعرف أنه يتوجب عليه الذهاب إلى هدنة لم تعد من قبيل الرفاهية. الجيش مرهق، وأهالى الأسرى طفح بهم الكيل، والحماسة الأمريكية لن تبرد دون إنجاز يضيفه ترامب لسجلاته العارية حتى الآن. هو نفسه يحتاج لتلك الوقفة؛ إنما على شرط ألا تفجر الأرض من تحت قدميه بالداخل، ولا أن تقطع طريقه على العودة للاشتباك حالما تقتضيه المصلحة. والنزاع هنا ثلاثىّ الأبعاد: الغزيون يطلبون فسحة تنتهى إلى تبريد كامل، وشركاء الائتلاف اليمينى المتطرف يرفضون إلقاء القفازات، والولايات المتحدة فى منتصف الطريق، تبحث عن صفة الإطفائى المُجيد، ولا يعنيها أن تندلع الحرائق مجددا بعد الاستحصال على الصورة المطلوبة. وعليه؛ فبإمكان العجوز بيبى أن يحتوى الرغبة الأمريكية مؤقتا، ولا حاجة لديه لبذل أى مجهود استثنائى مع الحماسيين؛ إذ يمكنه الرجوع فى كل التعهدات كما كانت عادته دائما. معضلته الوحيدة فى داخل البيت، وهى كيف يحتال على الأحزاب الصهيونية الشريكة، من دون أن تدفعهم فورة الغضب للخروج من الحكومة وإسقاط الائتلاف. وكيف يُحيّد ورقتهم دون أن يسقطها تماما؛ ليظل بمقدوره أن يعيد إشهارها والتعلل بها وفق الكيفية المتكررة من أول الحرب! لا يريد الرجل أن يلتزم بشىء لأى طرف. يُعطى القليل ويستبقى ما يعينه على سحبه أو الانقلاب عليه. يتطلع إلى الإمساك بقرار التهدئة والتصعيد بمفرده، ليحق له الدخول فى الاتفاقات والخروج منها دون أن يُسأل عنها أو يحتاج لتبريرها. وهو طامع فى مزايا الأمرين معا: القتال إلى المدى الأقصى كما لو أنه لا سلام فى العالم، والتوقف فى أية لحظة عندما توفر له الدبلوماسية ما لا يوفره السلاح. شىء من هذا جرى مع لبنان، وفى سوريا سابقا وحاليا، ومع رأس الممانعة نفسه فى طهران. كان الشارع ينادى بالتوقف وراء الليطانى فيما يصر على تسعير ناره فى الضاحية وما بعدها، والشارع نفسه رحب بمواصلة الإغارة على الجمهورية الإسلامية إلى أن يتأمّن النصر الحاسم؛ لكنه أعد ترتيبات الانسحاب من المواجهة برعاية أمريكية، بعدما حقق من الجولة ما كان يطلبه لنفسه قبل إسرائيل. لو كان راغبا فى الهدنة لما منعته حماوة سموتريتش أو تشغيب بن جفير؛ إذ وعدته المعارضة بشبكة أمان عبر نوابها، حال الانخراط فى صفقة تعيد الرهائن من القطاع. ولو كان الانصياع الكامل للتوراتيين وأحزاب المستوطنين مريحا له، ما ضم غريمه القديم جدعون ساعر للائتلاف، أو تفاوض مع بينى جانتس على العودة مجددا، بحسب ما تردد فى بعض المنصات العبرية خلال الفترة الأخيرة. إن كل غايته أن يُرمّم غزله المتفسخ، ويستكمل نسيج أسطورته الشخصية المتداعية. أخرجه الطوفان من العزلة السياسية بعد مشروع الإصلاح القضائى، وأعادته الغزوة الفارسية إلى مقدمة استطلاعات الرأى، والهدنة اليوم مطلوبة لتثبيت المكاسب واستكشاف آثارها، على شرط أن تظل بوابة الحرب مفتوحة حال استشعار الخطر. لهذا؛ يُماطل فى إبرام الاتفاق حاليا ليُحيد الوقت لا أكثر، ويبعد رقبته عن مقصلته الحامية. لن يستعين بأمن يائير لابيد ونفتالى بينيت وغيرهما، ولن يخسر وزيرى المالية والأمن القومى المتطرفين، ومن يُطابقونهم فى الرؤى من داخل الليكود. والحل أن يحتال عليهم ويُسقيهم شرابه قهرا، وبما لا يترك لهم متسعا لرفض الجرعة أو تهشيم القارورة من الأصل. أى أن يلعب على حد الزمن، ويُمرر ما يُريده ترامب من زحام ما لا يُريده إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش. بنهاية الأسبوع الجارى يُفترض أن يدخل الكنيست فى إجازته السنوية، وسيبقى فيها حتى أكتوبر المقبل. بهذا سيتمكن من إبرام الهدنة على شرطه الخاص، ودون مراجعة أو اعتراض، وسيتعذّر على الغاضبين أن يُقوِّضوا سلطته؛ ولو تشجعوا على الاستقالة ومغادرة الائتلاف. سيلتزم بشهرين مع حماس، على أن تكون مساحة لاستكمال التفاوض واختبار فرص التوقف الدائم. ومتاح له أن يُعيد ترتيب أوراقه داخليا، أو أن يذهب للتسوية ويعود منها مجددا قبل انقضاء الهامش الطويل نسبيا. وعلى أسوأ الفروض؛ سيُضطر لتمديد المؤقت واستخلاص بقية الأسرى، وإضافة نقاطه فى غزة إلى رصيده السابق مع حزب الله ودمشقوطهران، ما يسمح له إما بترويض حلفاء اليمين التوراتى لأنه لا فرصة لهم إلا معه، أو أن يذهب لانتخابات مبكرة سيتمدد حبلها إلى ما يُقارب منتهى ولايته، وإن لم يفز فقد لا تتأمّن أغلبية كافية للبديل، وبهذا سيظل فى موقعه ولو تحت غطاء تسيير الأعمال. استبق العجوز موعد الإجازة التشريعية بإجازة منزلية، تنتهى تقريبا فى يوم انفضاض الكنيست. قال مكتبه إنه تعرض لتسمم غذائى، وأجبره الأطباء على أن يلزم بيته ثلاثة أيام. تردَّدت فى الإعلام الإسرائيلى رواية عن أنه سمّم نفسه، أو تعمّد أن يتناول طعاما ملوثا؛ لأجل الإفلات من جلسات محاكمته فى قضايا الفساد، وإجبار المحكمة على تأجيل القضية. وبعيدا من منطقية المسألة، بل وخطورة المغامرة على رجل فى منتصف عقده الثامن، وقد تتطور لعبة الاستعراض والاحتيال معه إلى خطر داهم يهدد حياته ويودى به إلى التهلكة؛ فإن المنافع المتحققة من وعكته الأخيرة تشى بأنها لم تكن عارضة تماما، أو على الأقل لا تخلو من قصدية ولو بخديعة مرتبة مع الأطباء. لن تُثار قضايا المفاوضات فيما تبقى من أيام الكنيست؛ إذ لن تجتمع الحكومة ولن يكون مضطرا لإحاطتها بآخر التطورات. ستتجمد الوقائع على حالها لحين عودته، وسيُقدر الأمريكيون والسيد ترامب محنة صديقهم العزيز، فلن يضغطوا عليه أو يثيروا حفيظته فى فراش المرض. وعليه؛ فالكلام لن يتوقف فى الدوحة، والفعل لن يتأتى مؤقتا من واشنطن أو تل أبيب، وسيتعافى العجوز الماكر بعد أن يغادر النواب مقاعدهم إلى الشواطئ، لتنحل العُقد الأخيرة وتُبرم الصفقة بالحدود الدنيا المتفق عليها فى ورقة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، ونسختها القطرية المحدثة. يُوظِّف نتنياهو مهاراته فى مراقصة الجميع. ولديه مقدرة ممثل بارع، وخفة وخداع أعتى الحواة. من بادئ مسيرته وليس الآن؛ عندما حرّض على رابين ورقص فوق جثته، ثم استثمر فى الأصولية الإخوانية بديلاً عن السلطة ومُنظّمة التحرير. رعى حماس ونفخ فى صورتها، واستخدمها خنجرًا لطعن القضية فى ظلِّها السياسى، ثم استدرجها إلى المعارك واحدةً تلو أخرى، وعندما تخطّت السقف مُتمرِّدة على قواعد الاشتباك المُكرّسة بينهما، منحته من حيث لا تدرى أفضل هداياها وأعلاها قيمة على الإطلاق. سيُبرم الاتفاق بحسب إرادة ترامب؛ إنما بما لا يُبقى للحركة منفذا للقبض على خناق القطاع، ولا للإقامة العلنيّة فيه أصلاً. إنه الردع والتكييف وإعادة ترسيم الحدود بالسياسة؛ وإلا فالحرب واقفة على الأبواب بكامل عُدّتها وعديدها. يربح العجوز ليس لأنه على حقٍّ، ولا لأنه الأقدر أو الأذكى؛ إنما بغباء خصومه ورعونتهم، وبأنهم أطعموا الأيديولوجيا حتى ابتلعتهم، واصطادوا أنفسهم قبل أن يصطادهم الأعداء. يكتفون بالعاطفة عن الفاعلية الحقّة، ودعايات الإفناء واستعادة فلسطين من النهر للبحر، عِوضًا عن الحفاظ عمَّا كان فى حوزتهم. الهُدنة قد تكون تفّاحة نتنياهو المقدسة أو لعنته؛ لكنها تتساوى فيما يخص مصير حماس مع الحرب. أخرجت الحركة نفسها من المُعادلة الآن ولعقودٍ، وأضعفت القضية بالانفراد أوّلاً، ثم بالاستكبار والمُماطلة. إن كان زعيم الليكود مدينًا لأحد فى خواتيم رحلته؛ فربما يكون يحيى السنوار وبقيّة محور المُمانَعة. لقد منحوه ما لم يمر على خاطره فى أشدِّ حالات ضعفه وقوّته، والأسوأ أنهم منحوا لإسرائيل ما كانت تحتاج عقودًا للتجاسُر على طلبه والتحرك إليه. إنها البطولات الانتحارية التى تترك مذاقا لاذعا على اللسان، وتحفر ذكرياتها فى لحم البشر والأرض، وتُخرج لسانها للقضايا الكُبرى بعدما تسلَّط عليها الصغار.