لماذا نعجز عن قول "أنا آسف" وكأنها كلمة من نار؟ لماذا نظن أن الاعتذار يخصم من رصيدنا الإنساني، بينما هو في الحقيقة يضيف إليه وزنًا لا تملكه الجبال؟ وكأن الحروف حين تصطف لتقول الحق، تُصاب بالارتباك، وكأن الكِبر يقف على باب اللسان حاجزًا بيننا وبين الكلمة البسيطة التي تعيد للأشياء اتزانها. نحن نكبر كل يوم، لكن بعضنا لا ينضج بما يكفي ليقول "أخطأت"، نُصر على المكابرة، كأننا نخشى أن تنكسر صورتنا في المرآة، أو أن يسقط تاج الوهم عن رؤوسنا، ننسى أن الاعتذار ليس سقوطًا بل نهوض، وليس انكسارًا بل شجاعة، وأن من يملك القدرة على الاعتراف يملك في قلبه من النُبل ما يعجز عنه كثير من المتباهين. الاعتذار ليس إهانة، بل احترام.. احترامٌ للآخر، واحترامٌ للنفس، هو اعتراف أن القلوب تُخطئ كما تُحِب، وأن اللسان قد يزل، والنية قد تسهو، لكن القلب إذا ظل حيًا، سيبحث دومًا عن ترميم ما تصدّع. حين نقول "أنا آسف"، لا نخسر شيئًا، بل نربح ما هو أثمن من الكبرياء الزائف، نربح قلوبًا كادت تُغلق، وعلاقات على وشك أن تتبخر، واحترامًا لا يُشترى بمال ولا يُفرض بقوة. الكلمة التي نظنها ثقيلة، تحمل في جوفها مفاتيح السلام، في بيوت، في صداقات، في تفاصيل الحياة اليومية. ومن المؤسف أن نعيش في مجتمعات تُربينا على الاعتداد بالنفس حتى الحماقة، تخلط بين الكرامة والعناد، وبين الكبرياء والتجبر، كأن الاعتذار يُذل صاحبه، لا يُطهره، وكأن الرؤوس لا تُرفع إلا إذا ظلت مُدلاة فوق الخطأ دون تراجع. ولكن الحقيقة تقول شيئًا آخر.. الاعتذار لا يُقلل من هيبتك، بل يجعلك إنسانًا يُرى بقلبه قبل أن يُحكم عليه بمنصبه أو مكانته، الاعتذار في لحظة صدق، قد يعيد بناء ما هدمته سنوات من الجفاء، وقد تفتح به بابًا ظل مغلقًا طويلًا خلف كلمات جارحة أو تصرف متهور. ليس المطلوب أن نعيش منبطحين نعتذر عن كل شيء، ولكن أن نملك ميزانًا داخليًا يعرف متى نخطئ ومتى نصحح، أن نكون شجعانًا بما يكفي لنتراجع حين نُدرك أننا تجاوزنا. فالاعتذار لا يصنعه الضعفاء، بل يقدر عليه الأقوياء، أولئك الذين يؤمنون أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن التواضع لا يُنقص من قيمتنا، بل يزيد من قامتنا في عيون من حولنا. فلتكن "أنا آسف" جزءًا من مفرداتنا اليومية، لا طارئة تأتي بعد خراب طويل، ولنفهم أن الكرامة لا تُحفظ بالعناد، بل بالحب، بالصدق، وبالقدرة على قول ما يجب، وقتما يجب.