في روايته الجديدة "الأحد عشر"، يقدم لنا الكاتب المبدع أحمد القرملاوي عملاً جريئًا يعيد فيه سرد القصة الشهيرة لأبناء يعقوب من منظور مغاير، يسلط الضوء على الشخصيات التي جرت العادة على تصنيفها باعتبارها "الأشرار". لكنه لا يتوقف عند الزمن القديم فقط، بل يدمج الماضي بالحاضر في حبكة تتلاعب بالسرد والأسطورة، فتظهر البطلة "داينا" في الزمنين، حاملةً على عاتقها ثقل القصة وإعادة تفسيرها في إطار زمني حديث. إعادة بناء القصة: وجهة نظر غير تقليدية منذ الأزل، استقرت قصة أبناء يعقوب في الذاكرة الجمعية باعتبارها قصة خيانة وغدر، حيث قام الإخوة ببيع يوسف، مما أدى إلى سلسلة من الأحداث التي انتهت بتبوئه مكانة مرموقة في مصر. لكن القرملاوي يقلب هذه الرواية رأسًا على عقب؛ إذ يجعلنا ننظر إليها من منظور أولئك الذين تم اعتبارهم أشرارًا. فهل كانوا بالفعل كذلك؟ أم أن هناك جانبًا آخر للقصة لم يُروَ من قبل؟ هذا السؤال المحوري هو ما يضفي على الرواية طابعها النقدي العميق، حيث يتلاعب المؤلف بالزمن والمفاهيم الأخلاقية ليدفع القارئ إلى إعادة النظر في "الحقيقة" كما يعرفها. داينا: الأسطورة تتجسد في الحاضر إلى جانب حبكة القصة التاريخية، يقدم أحمد القرملاوي شخصية أخرى تحمل الاسم ذاته: "داينا"، لكنها تعيش في الزمن الحاضر. في حبكة تجمع بين الواقعية السحرية والميتافيزيقا، نجد أن داينا الحديثة لم تعد مجرد شخصية في رواية أحد المؤلفين، بل قفزت من صفحات الكتاب إلى العالم الحقيقي، كأنما ولدت من رحم السرد ذاته. هذه الحبكة تطرح تساؤلات فلسفية عن ماهية الخيال والواقع، وعن قدرة الكتابة على خلق حياة مستقلة بذاتها. هل يملك الكاتب السيطرة المطلقة على شخصياته؟ أم أن هناك نقطة تتحرر فيها الشخصيات من مؤلفها لتصبح كائنات قائمة بذاتها؟ السرد الإطاري: الجسر بين الأزمنة يظهر إبداع القرملاوي جليًا في الربط بين الأزمنة الثلاثة: زمن القصة التوراتية، وزمن داينا الحديثة، والزمن الإطاري الذي يجمع بينهما في عالم روائي واحد. تضفي هذه البنية السردية المعقدة عمقًا كبيرًا على الرواية، حيث لا يقتصر السرد على مجرد إعادة سرد حكاية معروفة، بل يتجاوز ذلك إلى بناء شبكة من العلاقات بين الماضي والحاضر، وبين المتخيل والواقعي. هذا النوع من السرد يذكّر بأسلوب خورخي لويس بورخيس وأمبرتو إيكو، حيث تتداخل الحكايات داخل بعضها البعض، مما يخلق طبقات متعددة من التأويل والمعاني. بورخيس واللعبة السردية في "الأحد عشر" يظهر تأثير خورخي لويس بورخيس على البناء السردي لرواية "الأحد عشر" للقرملاوي؛ إذ نجد أن هناك تشابهات واضحة بين أسلوب بورخيس في اللعب بالزمن، وتداخل العوالم السردية، وإثارة الأسئلة حول الحقيقة والوهم، وبين ما يقدمه القرملاوي في روايته. كان بورخيس مولعًا بفكرة المتاهة السردية، حيث تتشابك الحكايات وتتقاطع، ويصبح الزمن مجرد عنصر قابل لإعادة التشكيل في يد الكاتب. في الأحد عشر، يتجلى هذا التأثير في كيفية ربط القرملاوي بين الماضي التوراتي والحاضر، وفي الطريقة التي يجعل فيها شخصية روائية مثل داينا تتحرر من الورق وتصبح كيانًا حيًا، تمامًا كما فعل بورخيس في قصص مثل حديقة المسارات المتشعبة والآخر. تداخل الحكايات والكتب داخل الكتب واحدة من أبرز التقنيات التي اشتهر بها بورخيس هي فكرة "الكتب داخل الكتب"، حيث نجد في أعماله شخصيات تقرأ عن نفسها، أو نصوصًا تتداخل مع الواقع بطريقة تجعل القارئ مشوشًا حول الحد الفاصل بين الخيال والحقيقة. في الأحد عشر، نرى أن القرملاوي يوظف هذه الفكرة من خلال حبكة داينا، التي تتحول من مجرد شخصية روائية إلى إنسانة من لحم ودم، وهو ما يعكس هوس بورخيس بالسرد الذي يعيد إنتاج نفسه، كما في قصته بيير مينارد، مؤلف دون كيخوته، التي تناقش إمكانية إعادة كتابة نص قديم بمنظور جديد بحيث يصبح عملاً مختلفًا تمامًا. الميتافيزيقا والبعد الفلسفي لطالما كانت أعمال بورخيس غنية بالأسئلة الفلسفية حول الزمن، والوجود، والقدر، وهي ذات الموضوعات التي يتناولها القرملاوي في الأحد عشر. كيف يتغير التاريخ عندما يُروى من وجهة نظر مختلفة؟ هل يمكن إعادة كتابة الماضي؟ هل الشخصيات الروائية تمتلك وعيًا مستقلًا عن مؤلفها؟ هذه التساؤلات تجعل الرواية تنتمي إلى عالم السرد البورخيسي الذي يمزج بين الأدب والفكر الفلسفي العميق. من الواضح أن القرملاوي، سواء بقصد أو دون قصد، قد تأثر برؤية بورخيس للسرد بوصفه متاهة لا نهائية من الاحتمالات. فكما أن بورخيس جعل القارئ يشكك في مفهوم الواقع عبر قصصه، تفعل الأحد عشر الشيء ذاته من خلال إسقاطاتها على التاريخ والدين والأدب. إنها ليست مجرد إعادة رواية لقصة قديمة، بل هي إعادة تأويل بورخيسية بامتياز، تفتح أمام القارئ أبوابًا جديدة للتفكير في طبيعة الزمن والسرد والوجود. أمبرتو إيكو و"الأحد عشر": بين التاريخ والتأويل السردي إذا كان خورخي لويس بورخيس هو الأب الروحي للمتاهة السردية، فإن أمبرتو إيكو هو مهندسها الأكثر براعة في توظيفها داخل التاريخ والفكر والفلسفة. وفي الأحد عشر للقرملاوي، يمكننا أن نرى بصمات إيكو واضحة، سواء في إعادة بناء السرد التاريخي، أو في استخدام تعددية الأصوات، أو في اللعب بين مستويات المعنى والتفسير، وهي تقنيات ميزت أعمال إيكو مثل "اسم الوردة" و"بندول فوكو". التاريخ كحقل مفتوح للتأويل في أعمال إيكو، لا يكون التاريخ مجرد خلفية للأحداث، بل يتحول إلى فضاء مفتوح لإعادة التفسير والتلاعب بالسرديات الكبرى. في "اسم الوردة"، نرى كيف يستخدم إيكو تاريخ القرون الوسطى في أوروبا كمرآة لصراعات الفكر والمعرفة. بالمثل، نجد في "الأحد عشر" أن أحمد القرملاوي لا يعيد فقط سرد قصة أبناء يعقوب من منظور مختلف، بل يتلاعب بها، كاشفًا عن احتمالات سردية بديلة تجعل القارئ يعيد النظر في المفاهيم المستقرة حول الخير والشر، والمظلومية والخيانة. التعددية السردية وبناء العوالم المتشابكة في بندول فوكو، قدم إيكو سردًا معقدًا يقوم على مستويات متعددة من التأويل، حيث تتداخل السرديات الميثولوجية مع نظريات المؤامرة، ويتلاعب المؤلف بالقارئ في لعبة متاهية. وهذا ما يفعله القرملاوي في "الأحد عشر"، حيث لا يقتصر السرد على القصة التاريخية فقط، بل تتشابك معها قصة داينا في الزمن الحاضر، والتي تنشأ داخل رواية أخرى لكنها تتحرر منها، مما يخلق مستويات سردية متراكبة، تجعل القارئ دائمًا في حالة تساؤل حول طبيعة الواقع والمتخيل. التناص والتفاعل مع النصوص الكبرى كان إيكو من كبار المنظرين لفكرة القارئ النموذجي، أي القارئ القادر على التقاط الإشارات النصية والتفاعل مع التناص الموجود في العمل. في "الأحد عشر"، نجد أن القرملاوي يعتمد بشكل واضح على تقنيات التناص، حيث يتفاعل مع النص التوراتي بشكل مختلف، لا باعتباره نصًا مقدسًا فقط، بل بوصفه نصًا مفتوحًا يمكن إعادة قراءته وإعادة تأويله وفق منظور جديد. هذا يشبه ما فعله إيكو مع النصوص الدينية والفلسفية في "اسم الوردة"، حيث قدم رؤية تحليلية للسرديات التاريخية عبر منظور تأويلي معقد. اللغة بين السرد الفلسفي والتشويق الروائي على الرغم من البعد الفلسفي العميق في أعمال إيكو، فإنه كان قادرًا على المزج بين السرد المشوق والتحليل الفكري، وهذا ما نراه أيضًا في الأحد عشر. فالقرملاوي لا يترك الرواية تغرق في التعقيد الفلسفي البحت، بل يحافظ على مستوى من الإثارة والتشويق من خلال شخصياته، وتداخل الحكايات، والعلاقات المتوترة بين الماضي والحاضر. عمل إيكوي بامتياز يمكن القول إن "الأحد عشر" للقرملاوي تقف في منطقة قريبة جدًا من أعمال إيكو، سواء من حيث توظيف التاريخ كفضاء تأويلي، أو اللعب بالسرديات الكبرى، أو التعددية السردية التي تفتح النص على مستويات لا نهائية من القراءة. إنها رواية تنتمي إلى نفس المدرسة التي ينتمي إليها "اسم الوردة" و"بندول فوكو"، حيث يتحول السرد إلى لعبة فكرية تستدعي قارئًا واعيًا، قادرًا على تفكيك الطبقات النصية والتفاعل مع شبكتها المعقدة من المعاني. الأسلوب واللغة: بين التوراة والحداثة يعتمد أحمد القرملاوي لغة قوية تجمع بين البلاغة القديمة والتعبير الحديث، مما يجعل الانتقال بين الأزمنة سلسًا ومقنعًا. ففي مقاطع الرواية التي تدور في الزمن القديم، نلحظ تأثر الكاتب بأسلوب السرد التوراتي من حيث البناء اللغوي والصياغة، بينما في مقاطع الزمن الحاضر، تصبح اللغة أكثر انسيابية وحداثة، مما يعكس طبيعة الشخصيات وعالمها المختلف. الرسائل الفلسفية والإنسانية لا تخلو الرواية من بعد فلسفي عميق، إذ تسلط الضوء على مفاهيم الخير والشر، والقدر والحرية، والحقيقة والزيف. من خلال شخصياتها المختلفة، تطرح الرواية تساؤلات جوهرية عن مدى تحكم الإنسان في مصيره، وهل يمكن إعادة كتابة التاريخ من جديد؟ كما تعكس الرواية هاجسًا وجوديًا حول حدود الخيال والواقع، وهو سؤال يتردد في العديد من الأعمال الأدبية الكبرى. عمل روائي استثنائي رواية "الأحد عشر" ليست مجرد إعادة سرد لقصة قديمة، بل هي إعادة تفكيك لها وإعادة بنائها وفق رؤية معاصرة تدمج بين التاريخ والميتافيزيقا والفلسفة. بفضل حبكتها الذكية، وأسلوبها السردي المتقن، ورسائلها العميقة، تضع الرواية نفسها ضمن الأعمال الأدبية التي تستحق التأمل والقراءة المتأنية. إنها رواية تدعونا إلى إعادة التفكير في الماضي، ليس بصفته مجرد سجل للأحداث، بل بوصفه نصًا حيًا يمكن قراءته وتأويله بطرق جديدة في كل عصر.