«ورثة آل الشيخ»، الرواية الجديدة للكاتب أحمد القرملاوى، يمكن تصنيفها كرواية أجيال. لكننى سأستهل قراءاتى بالإشارة لجودة النص وتماسك بنيانه الذى شيده الكاتب/المهندس، الأمر الذى انعكس بوضوح على التطور الملموس فى بنائه السردى، وقدرته على تنويع النصوص وإدارة مساراتها المتشابكة كأنه عامل تحويلة، يملك من الخبرة ما لا يشى به عمره. مجهود بحثى لافت لا بد من التوقف أمام المجهود البحثى المبذول فى هذه الرواية، الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب، فلا شك أن القرملاوى قد فتح بطن التاريخ عائدًا لبدايات القرن الماضى ومارًّا بالحرب العالمية الأولى فالثانية، وصولا لانتهاء الملكية وبداية الحكم/الحلم الناصرى. المفردات والمسميات وجغرافية القاهرة التى لا تشبه قاهرة اليوم بحال، مثلما كانت بورسعيد والقرية البعيدة، الشوارع والأحياء والتطور العمرانى، المسارح والسينمات والمطابع ومتعهدى الحفلات ومضامير السباق؛ يستلزم الأمر جهدًا بحثيًا شاقًّا، ولولا التحضير والبحث المضنى ما خرج النص فى صورته تلك. ما هو إرث آل الشيخ؟ الحكاية المنقولة عبر أجيال من حكّائى العائلة، تؤكد وجود الكنز؛ سبع زلعات مليئة بالذهب يحرسها قرد أجرب، يكتشفه سابع «محمد» فى نسل الشيخ صاحب الرؤيا، والراوى الأول للأسطورة. حكاية تتقد جذوتها فى عقول الجيل الأول، وتظل حاضرة فى أدمغة الأجيال اللاحقة، غير أن وهجها يخبو وتنطفئ ذبالته بالتدريج. ما بين الميتافيكشن والراوى العليم يسرد الراوى تاريخ العائلة، فيما يكتبه كنص روائى داخل الرواية؛ يتتبع الخيوط حتى تلتئم الخبريات فوق أوراقه، يفتح الأظرف ويستدعى المخزون فى ذاكرة الأحياء، وينسج بمغزل الخيال ما لا يصل لتتِمَّته، مازجًا بذلك بين تقنية الراوى العليم وأدب الميتافيكشن، أو كتابة رواية بداخل الرواية. الراوى، المهندس بالأساس، والذى يتحول لكاتب فى أعقاب تداعى سوق العقارات بعد يناير 2011، (وكأن القرملاوى يستودع بطل الرواية قسمًا من حكايته)، جنبه أبوه مشقة البحث عن الكنز إذ لم يُسمِّه محمدًا كعشرات المحمدات فى عائلته، وعلى الرغم من كونه غير مكلف بالبحث، يغوص الراوى فى سيرة العائلة، ويتصفح أوراق أجيالها تباعًا، جاعلا من تلك المرويات متنًا لروايته. كان الكاتب موفقًا فى اختياره سرد الشق التاريخى للشخصيات والأحداث بترتيبها الزمنى، فلو أنه اختار تقنية القفزات الزمنية، لكان قد خلق حالة من التشتت والتشظى لدى القارئ، لكننا أمام سارد متمكن يجيد استخدام أدواته وتوظيفها جيدًا. رحلة بحث جديدة للقرملاوى ليست المرة الأولى التى تتمحور فيه حكاية القرملاوى حول حبكة «البحث». وخلال هذه الرحلة، لا ينخرط الراوى فى البحث عن الكنز بمعناه المادى، فلا يتتبع آمال الثراء بقدر ما يبحث عن جذور جدوده ويتتبع مساراتهم. أجاد القرملاوى نسج «قماشة» الحكاية، وضفْر أفرع العائلة عبر فصول قصيرة تتنقل بالقارئ بين مصائر الشخوص. يمسك بفرع ويتحرى حكايته، ما بين اخضرار وذبول. يحسب الراوى إرث الزمن، لا إرث الذهب. يتأمل كيف انفرطت حبات العقد عبر موجات من الشتات والاغتراب، قبل أن يتوقف ليحسب نصيبه من هذه التركة، من وهم الكنز ولعنته التى تسكن العقول. مخزن الحكايات أحكم القرملاوى خلق الشخوص ورسم خيوطها، بدءًا من الجيل الأول أبناء الشيخ من زوجاته الثلاث؛ فاضل أفندى، الفرع الأكثر اعوجاجًا فى سلوكه وسعيه خلف المتع الدنيوية حتى يتبدل مساره، صدقى بيك الحكمدار، صاحب الهيبة والسلطة والسيارة الفورد، نشأت وقصة حبة شديدة العذوبة، نعمات، التى شمل حنانها جميع أجيال العائلة، مختار، الفرع الأكثر طمعًا فى شجرة الشيخ، الشيخ كامل وريث المشيخة. أما الجيل الثانى أجداد الراوي فقد اختُزِل فى ستة شخوص: محمد ابن فاضل كشخصية كثيفة الحضور، وروحية ابنة مختار، وأبناء صدقى بيك الحكمدار، زبيدة وحسين وعلى وحسن، والواقع أن حكاياتَى زبيدة وحسن شديدتا الروعة، وبناء شخصيتيهما كما شخصية محمد بن فاضل شديد الإحكام والإتقان، مثلما كانت التحولات والنقلات الدرامية، فيما كان الجد حسين أقل حضورًا، أما على، فقد كان حضوره باهتًا، لدرجة سقوطه من شجرة العائلة (صفحة 21). هذا المخزون الكبير من الحكى، وهذه القدرة على إحكام التداخل بين الشخوص، هو ما أذهلنى بحق! ليس بيننا من لن يرى أحد أقاربه بين أفراد هذه العائلة، فالحكايات تغمركَ بالألفة لكونها حقيقية تمامًا، فكأنما جعل الكاتب من خياله آلة زمن عاد بها للقرن الماضى، لينتقى أشخاصًا حقيقيين ينقل سيَرهم لداخل نصه! ما وراء النص رغم انخراط الراوى فى تقليب صفحات الزمن المصفرة وإعادة رسم الحروف الممحوة، فإن الحاضر لا يغيب عن النص، الذى أحسبه أجرأ نصوص الكاتب فى تناول واقع ما بعد الثورة. إثر تجربة ما، مؤلمة ومريرة، يقرر صديق الراوى وشريكه الهجرة لأستراليا، وعلى إيقاعات صوت أحمد موسى وصراخه، تتسرب الرغبة فى الهجرة لعقل الراوى، دون ارتكاز على الآمال الوردية المتعلقة بحياة المهجر، بل على رغبة مشوبة بالتردد، فيما يتسلل صقيع الغربة لجسده قبل أن يشرع فى الإجراءات؛ راودته الفكرة حين لم يجد الوطن الذى وعدت به الثورة، ورسمت فى شرفات خياله صورته الحالمة. محاكمة التاريخ «جيل ينتج، وجيل يحصد ما أنتجه السلف« (ص 55) كلمات رنانة، سمعنا مثلها من آبائنا وجدودنا فى مرحلة ما، لكن القرملاوى بلغته الرصينة ونبرته الهادئة وسرده الموسيقى، يصرخ بين السطور بما يصم الآذان: ماذا جنَينا من حصاد الآباء؟ أى إرث نجنى ثماره اليوم؟ أى وطن تسلمناه بعد قرن كامل من النضال؟ كلنا ورثة الشيخ، كلنا نتشارك مخزون الحكايات بدراميَّته وتفاصيله، بانتصاراته الصغرى وهزائمه الكبرى. فهل نحن مطالبون باللهاث خلف حلم زائف بكنز مدفون يحرسه قرد أجرب؟ أمقدور أن ندور فى دوائر التاريخ إلى الأبد؟ أم تُرانا ننسلخ من ذلك الإرث الثقيل، فنجنح لشطب الصحف وبيع البيت/التاريخ/الزمن، الذى ورثنا حصاده المعيب؟ «نحن الجيل الحاصد يا أبتاه، نحصد كل شيء؛ ليس المال فقط، ولا الأرض، ولا البيوت، بل الهزيمة.. وغمامات الأعين، والهتاف الضائع فى الفراغات. حتى الجينات نحصدها، والدماء المسممة بهوس البحث عن الكنوز، عن الوعود الجسام، عن المذنبات الضائعة فى الفضاء». (ص 68) استخلاص جيل الآباء يستعد للرحيل، وسنصبح نحن جيل الآباء! بنهاية النص، تتبلور صورة ماضٍ يصر على تجميد الحاضر وتعطيل المستقبل. القرد الأجرب، موروث شفاهى يحمل تراثًا شائهًا وأمجادًا تحفل بالزيف، وصحف مصفرة مليئة بالوعود. الكنز ليس إلا كأس الوهم التى نتجرعها جيلا من بعد جيل، ما عادت تروى الظمأ. هل طرحت الرواية سؤالا بعينه؟ وهل اقترحت إجابات؟ كل النصوص تحتمل التأويلات، قد لا يرى البعض إلا مجموعة من الحكايات الممتعة محكمة التشبيك، وقد يعتبرها البعض كوة سردية تنفتح فى جدار الزمن، يطلون من خلالها على مصر التى سمعوا عنها فى حكايات الآباء والأجداد، قد يشير البعض لعباءة نجيب محفوظ، وتأثر الكاتب بتتبع حكايات الأجيال تحت وطأة حضور مكثف للموت، وقد يكتفى القارئ بالمتعة التى تحققت لديه عبر القراءة. أما عن نفسى، فقد استمتعت بكل هذا، وعلاوة عليه أزعم بأننى عثرت على الكنز المقصود خلف واجهة الحكاية، وها أنا أسأل: كيف نريد لقطار الغد أن يمخر الزمن فوق قضبان أخرى غير التى مدَّدها الأسلاف، طالما ظل الماضى هو عربة الجر، والجالس خلف المقود قرد أجرب؟ تتِمَّة النص هل كانت ثمة إجابة؟ ضمنيًا نعم، لكن أبرع الإجابات كانت تلك التى تركها الكاتب معنونةً بالفصل رقم 44. صفحة فارغة تركها الكاتب، فقط، لقوم يتفكرون! كلمة أخيرة عبر 278 صفحة مكتوبة، وصفحة فارغة، يرسخ القرملاوى مكانته ضمن صدارة كُتّاب الجيل، وبرغم كونه أربعينيًّا تشى طباعه بالعقلانية والهدوء، فإنه فى مشواره القصير بقياس السنوات، يتحول لطفل مشاغب يصعد دَرَج التطور وثبًا لدرجتين أو ثلاث فى كل خطوة. غلاف كريم آدم جميل ولافت للانتباه، يعرِّف القارئ بالحقبة الزمنية التى تغلب على النص. العنوان معبر وموجز. ربما لا يعيب النص غير سقوط بعض التفاصيل من شجرة العائلة (ص 21)، كما أن حذف بعض الشخصيات مثل على ابن صدقى بيك وفرع الشيخ كامل من أبناء الشيخ وعدد من أسماء البنات فى الجيل الثالث، ما كان ليُخِل بالبناء السردى، ولكان حفَّف من حشد الأسماء فى عقل القارئ، خصوصًا فى الفصول التمهيدية. بكل تأكيد، عمل جديد ممتع ومميز للقرملاوى، أعتبره الأجرأ من حيث التناول؛ محاكمة تأخرت لزارع لم ينتبه لزرعته، ولا توقف عن مطالبتنا بالتعظيم من شأن حصاده وابتلاع ثماره دون اعتراض. رواية مهمة، سردية محكمة بلغة متماسكة ومتناغمة، عمل أدبى حقيقى يستحق التأمل والعرض والمناقشة.