الجمالية التي كتبها محفوظ بالحبر، أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي كتابتها بوحي الحضارة، وجعل ماكرون يقرؤها بصوت داليدا… "كلمة حلوة وكلمتين". في اللحظة الأولى، ظننت أن ما رأيته خدعة بصرية، أو مشهدًا صُمم بإبداع الذكاء الاصطناعي.. الرئيس عبد الفتاح السيسي يصطحب نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، في قلب المعز وخان الخليلي والجمالية والحسين ويجلسا على مقهى نجيب محفوظ، لكنني لم ألبث أن أدركت، في لحظات، أنني أمام مشهد حقيقي لا تقدر عليه إلا مصر.. مصر التي لا تصطنع صورتها، بل تعيشها.. مصر التي تسع الزعيم والضيف، التاريخ والزحام، السياسة والمقهى، الأمن والابتسامة.. مصر التي لا تُدهشك إلا لتؤكد لك أنها "أم الدنيا" بحق. المشهد تجاوز المألوف، وأباح بما لا تقوله الخطابات الرسمية، وفي السياسة كما في المسرح، لا شيء يُترك للصدفة، وكل تفصيلة محسوبة، وما شهدته القاهرة خلال زيارة ماكرون، لم يكن عرضًا بروتوكوليًا، بل مشهدًا مصريًا مكتمل العناصر، كُتب نصّه بعناية، ومثّله الحاضر وهو يمد يده إلى التاريخ، فالرئيس السيسي لم يُقدّم ماكرون إلى مصر الحديثة فقط، بل إلى مصر العميقة، مصر التي تمشي في الأسواق، وتجلس على المقاهي، وتُصافح التاريخ كمن يُصافح صديقًا قديماً. ووسط الجموع جاءت غريزة المحبة وتلقائية الجماهير هي عنوان المشهد، حيث السيسي بين الناس.. بلا حواجز، وماكرون وسط الحرافيش… بلا رهبة، ليخرج المشهد واضحاً لزعيم محاط بسور من الثقة الشعبية، وفي أعين الناس التي لم تنظر إليه ك"رئيس"، بل ك"واحد منهم"، خرج من بين تلك الجدران، ومشى في تلك الطرقات، وحفظها كما يحفظ التاريخ سرده المقدّس. وفي لحظات الحسم لا يُرسل الكبار إلا رسائل بليغة… وما بين نكهة الشاي على مقهى نجيب محفوظ، ورائحة الكتب في جامعة القاهرة، كان ماكرون يقرأ سطورًا لا تُكتب بالحبر، بل بالتاريخ والمكان والموقف، لمصر التي كما هي بلا مساحيق ، تاريخ حيّ، وشعب يقظ، ودولة تمارس دورها بثقة الكبار، لا تحتاج إلى من يُملي عليها، بل إلى من يفهم لغتها التي تذوب بين الشرق والغرب دون أن تفقد هويتها أو هيبتها. زيارة ماكرون إلى القاهرة كانت نصًا بليغًا بلا مترجم، كتبته مصر بلغتها الخاصة: تاريخ يمشي في الشارع، شعب يبتسم، ورئيس يعرف أين يضع قدميه… أما الرسالة، فقد وصلت بلا توقيع، لأن كل حجر في الجمالية والحسين كان شاهدًا على عظمة "أم الدنيا".. ليشاركها ماكرون ويُهدي اللحظة بصوت داليدا.. "كلمة حلوة وكلمتين".