«نجيبا محفوظا» هكذا نطق العالم اسم نجيب محفوظ بعد الثالثة من بعد ظهر الخميس الثانى عشر من أكتوبر 1988«بتوقيت القاهرة» عندما فوجئت الدنيا من هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية بفوز كاتب مصرى اسمه نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب. وكانت الجائزة تعلن فى الخميس الأول أو الثانى من أكتوبر. حدث ارتباك فى طريقة نطق اسم نجيب محفوظ. وبدأت الدنيا تتساءل من هو أول عربى وأول مسلم يحصل على جائزة نوبل؟ وبعد 87 عاماً من تأسيسها؟ وهكذا تم نطق الاسم بطريقة خاطئة. وأذكر أن زميلى فى دار الهلال وقتها ضياء الدين بيبرس. وكان يتمتع بخفة ظل. وهى من الصفات التى وجدناها فى الأجيال السابقة فى الصحافة المصرية. كان ينتمى للجيل الذى عاصر أواخر زمن الملك فاروق وأوائل زمن يوليو. كان كتلة من الحكايات المتحركة على الأرض. دخل مكتبي. كعادته دائماً وأبداً بالبدلة الكاملة والقميص الأبيض وربطة العنق. وشعره مُرَجَّلْ إلى الخلف بعناية فائقة، حليق الذقن ونظارته تبتعد قليلاً عن عينيه. دليل الانشغال الشديد. وسألني: هل يمكن أن تدلنى من هو نجيبا محفوظا؟ وعندما لاحظ استغرابى الشديد. شرح ليَّ الحكاية. وبين الكلمة والكلمة ضحكة مدوية. ربما أيضاً كانت هذه الضحكة من ملامح هذا الجيل الذى لم نستطع تعويضه فى الصحافة المصرية حتى الآن. لن أستطرد فى حكاية ما جرى لنجيب محفوظ الذى نطق العالم اسمه نجيبا محفوظا فى ذلك اليوم المحفور فى ذاكرتى كأنه الأمس. والأمس بمعناه اللغوى وليس بمعناه المعنوي. لكنى أريد الكتابة عن يوم 11 ديسمبر الماضي. حيث مرت ذكرى ميلاده ال104. وفى حياته كان الاحتفال بعيد ميلاده يستمر أسبوعاً كاملاً. بل إن التليفزيون المصرى كان يخصص شهراً كاملاً يبدأ من 11 ديسمبر وينتهى فى 11 يناير للاحتفال بنجيب محفوظ. ولا يسأل أحد أين اليوم من الأمس؟. كان تعليق نجيب محفوظ بعد الحكايات التى كان يسمعها خلال هذا الشهر أنه أدرك أخيرا وفى الأيام الأخيرة من عمره قيمة الصداقة. ومعناها ودلالتها. وكنا نرد عليه أن الصداقة كانت ركناً جوهرياً من حياته. قلت له أن السعى لتكوين شلة الحرافيش فى أواخر أربعينيات القرن الماضي. وكانت تجمعاً رجالياً خالصاً هو بحث عن صداقة الرجال مع الرجال. والحفاظ على اللقاءات بشكل مستمر يجسد هذا المعني. كان الفنان المرحوم أحمد مظهر قد قال لى أنه هو الذى أطلق كلمة الحرافيش على الملتقي. وعندما فعل هذا لم تكن ملحمة الحرافيش رواية نجيب محفوظ الخالدة قد نشرت بعد. سألت أحمد مظهر يومها: لماذا نحت هذه الكلمة؟ ومن أين أتى بها؟ قال لي: أن الكلمة انبثقت فى ذهنه وهو يتخيل أبطال نجيب محفوظ والعوالم التى قدمها والحارة المصرية وسكان الحارة المصرية الذين هم من الحرافيش. كان هذا الكلام يدور قبل نشر ملحمة الحرافيش سنة 1977، وعندما نشرت الحرافيش فكرت أن أعاود الكلام مع أحمد مظهر، لكن الظروف لم تسمح. بعد أن نشرت الحرافيش سألت نجيب محفوظ عن دلالة المسمى؟ وهل أخذها من عبد الرحمن الجبرتي؟ أو من ابن إياس؟ المؤرخين المصريين الخالدين اللذين استطاعا القبض على روح الشخصية المصرية بفنية عالية. وأعتقد أنهما لو كانا قد درسا فن الرواية الحديثة لكانا قد كتبا لنا روايات ربما أعطت الأدب العربى والمصرى مكاناً فى المقدمة منه ريادة حقيقية فى كتابة النص الروائي. عبد الرحمن الجبرتى كتب عن الذعر والحرافيش. يصف بهم فقراء القاهرة وثوراتهم التى قاموا بها فى مواجهة الاحتلال الفرنسى لمصر. قال لى نجيب محفوظ أنه لم يأخذ المسمى لا من الجبرتى ولا من ابن إياس. لكنه سمعه عندما كان طفلاً بعد أن انتقلت عائلته سنة 1919 - وكان فى الثامنة من عمره - من الجمالية إلى العباسية الشرقية. المنطقة المعروفة الآن بالقبة الفيداوية. فى ذلك الزمان البعيد كان الحراك الاجتماعى أن تترك الحسين للعباسية. ومن العباسية إلى دير الملاك. ومن دير الملاك إلى كورنيش النيل. وهى الرحلة التى قام بها نجيب محفوظ فى انتقاله من سكن إلى سكن فى ذلك الزمان البعيد. قال لى نجيب محفوظ أنه بمجرد ظهور الفتوة كانوا يقولون: الحارة مفيش. أى أن الحارة خلت من البشر تماماً. لا أحد موجود فيها. كل الأهالى لاذوا ببيوتهم واحتموا بها خوفاً على حياتهم من الفتوة. وينظرون من النوافذ المغلقة وثقوب الأبواب حتى يتأكدوا من انصراف الفتوة. فيبدأون فى الخروج من منازلهم. وكل واحد يبارك لجاره أنه ما زال على قيد الحياة. الحارة مفيش تطورت إلى الحرافيش. الذين أصبحوا مع مرور الوقت المجموعات من البشر التى تحيط بالفتوة. تصبح فى خدمته. وتقوم بالدعاية له. وتجمع الإتاوات التى يحصل عليها من السكان. وتنشر القصص الخرافية عن قوته التى بلا حدود. يقولون أنه ولا شمشون فى زمانه. بل يصبحون مراسيل بين الفتوة ونسوة الحى وصولاً إلى قصص الحب والغرام التى كان يتمتع بها أى فتوة فى الحى الذى كان يعيش فيه. كنا نجلس فى فترة من الوقت فى مقهى عرابى بالعباسية. الذى أزيل ولم يعد له وجود. وكان صاحب المقهى فتوة سابق. يتذكر نجيب محفوظ أن فتوته تواكبت مع الاحتلال الإنجليزى لمصر. وكانت له حكايات كثيرة عن هذا الفتوة وعن غيره من فتوات ذلك الزمان الذين شاهدهم نجيب محفوظ رؤية العين واستمع لحكاياته بأذنه. ومن المؤكد أنه حتى بعد أن هاجرت العائلة المحفوظية من سيدنا الحسين. فإن نجيب محفوظ لم تنقطع صلته بالحى حتى لحظة مرضه الأخير. لم يكن يحلم بشئ سوى بأن يمشى على قدميه فى سيدنا الحسين وخان الخليلى وبين القصرين وقصر الشوق والسكرية. كان هذا الحنين يؤكد لى أن سيدنا الحسين مثلت لهذا الرجل وهذا الروائى الجنة المفقودة. أما حكايات نجيب محفوظ عن الفتوات التى لم يدونها فى رواياته. فربما كانت حكاية أخرى بعد أن يغربلها الإنسان مما لا يمكن نشره على الناس. لمزيد من مقالات يوسف القعيد