سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ما الدنيا إلا "قهوة المحطة" .. المخرج إسلام خيري انتقل برشاقة مبهرة من العوالم الخيالية في مسلسله الرائد "جودر" إلى التجسيد الصادق للواقع.. وعبد الرحيم كمال قدم دراما الجريمة بثوبها الإنسانى
بدايته جنائزية، شجية، ندية، وشاعرية أيضًا، تحمل الكثير من الفجيعة والألم. تبدأ القصة بنهايتها، ونعود لكي نبدأ من جديد لنصل إلى تلك النهاية المحتومة. نوقن بالخسارة حينما يموت الشاب البريء المفعم بالأمل، فينتابنا شعور بالجنائزية تمامًا مثل أغنية "فات المعاد" لأم كلثوم، وكذلك مسلسل "قهوة المحطة". تفيد بإيه يا ندم يا ندم يا ندم … وتعمل إيه يا عتاب تمامًا كما في أغنية أم كلثوم الشهيرة من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان بليغ حمدي، لا يفيد هنا أي ندم، فقد مات البطل الذي يقوم بدوره النجم الشاب "أحمد غزي" في بداية المسلسل، تاركًا في قلوبنا لوعة تزداد كلما عرفناه أكثر في حلقات المسلسل المتتابعة. وعلى رأي إحدى الشخصيات، فقد "ماتت الرهافة" حينما مات "مؤمن الصاوي"، الشاب الذي يأتي من بلده في الصعيد حاملًا أحلامه على كتفيه كالفراشة، لكنه لا يعلم أنه كلما اقترب من أنوار العاصمة اقترب من موته المحتوم. وبرغم أن تيمة انكسار الأحلام البريئة على أعتاب القاهرة من التيمات الشهيرة كثيفة الاستخدام، فإن الكاتب الكبير "عبد الرحيم كمال" أضفى عليها الكثير من البهاء والحيوية، وبرغم أن تلك التيمة رومانسية في الأساس، فإن المخرج المحترف "إسلام خيري" استطاع أن يضعها في قالبها الواقعي التجسيدي، فصار "مؤمن الصاوي" نموذجًا ملهمًا للأمل و"الرهافة" برغم نهايته المأساوية، علّنا ننقذ ما يمكن إنقاذه في يوم ما. طالت ليالي.. ليالي.. ليالي الألم يبدأ المسلسل، كما ذكرت، بمصرع الشاب "مؤمن الصاوي" في "قهوة المحطة"، ومن خلال البحث عن القاتل نرى مجتمع القاهرة بأكمله، والمحقق، الذي قام بدوره الفنان المتجدد "أحمد خالد صالح"، يبحث عن القاتل، لنستعرض في صورة شبه مسرحية أنماط القاهرة البشرية. وبرغم أنها في النهاية "أنماط"، فإن الكاتب الكبير عبد الرحيم كمال لم يلجأ إلى "التنميط"، كما يفعل كثيرون، بل جعل من كل شخصية عالمًا مستقلًا بذاته، واستطاع بحبكة فنية رائعة أن يجعلنا نشعر بأزماتها ونعيش في عالمها ونتفاعل مع قضاياها. وهنا نرى عالم "المعلم"، الذي قام بدوره الفنان الكبير بيومي فؤاد، وعالم صبي المعلم، الذي قام بدوره علاء عوض، وصبي المعلم الآخر "حسن أبو الروس"، وعالم المؤلف الشاب المحبط "أحمد ماجد"، وعالم الحبيبة "شروق" وعائلتها، وعالم "الملك" رياض الخولي، وعالم مرتادي القهوة مثل "لوجي" وغيرها. إضافة إلى هذا، نرى أيضًا العالم المحيط بالقهوة من عمال وبائعين ومتسولين، وعالم القرية المتمثل في أبي مؤمن، الذي قام بدوره الفنان الكبير "علاء مرسي"، وأمه، التي قامت بدورها الفنانة الكبيرة لبنى ونس. وهكذا يتخذ عبد الرحيم كمال من هذا المقهى مرآة عاكسة للشعب المصري، وهو ما يعرفه الباحثون بما يسمى ب"الشريحة الممثلة"، التي تجسد أطياف المجتمع ككل، ومن خلالها يُعرف اتجاه الرأي العام، أو يُدرس وضع اجتماعي أو حال اقتصادي. وكما في العلوم الاجتماعية، كذلك في الفن الراقي، يستطيع المشاهد أن يرى في الأعمال الكبيرة المجتمع ككل، بل ويستطيع أن يفسر تحولاته ويقف على أهم التغيرات الواقعة فيه، وهو ما يحدث بامتياز في مسلسل "قهوة المحطة". تعتب عليّ ليه.. أنا في إيديّ إيه وبرغم أن المسلسل في مجمله قد ينتمي إلى فئة دراما الجريمة، فإن اللافت هنا أن الكتابة المبدعة للكاتب الكبير عبد الرحيم كمال قد استطاعت أن تجعله مسلسلًا إنسانيًا في المقام الأول، فالجريمة هنا ليست بطلًا، لكنها ليست سوى مدخل نرى من خلاله المجتمع المصري وقسوته، كما نلحظ عنف اصطدام البراءة بالوحشية، والأحلام الرومانسية بكوابيس الواقع. وهنا لا بد من الإشادة بما فعله المخرج الكبير "إسلام خيري"، الذي استطاع أن ينتقل برشاقة مبهرة من أجواء العوالم الخيالية التي قدمها في مسلسله الرائد "جودر" إلى التجسيد الصادق للواقع. وقد ظهر هذا في اختيار أماكن التصوير الطبيعية، وفي التركيز على مفردات الشارع المصري المختلفة، من اللافتات والإعلانات، وحتى حركة الكلاب وعربات الأكل العشوائية. ولم يقتصر هذا التجسيد على الاستعانة بما هو موجود أصلًا في الشوارع والأماكن العامة، لكنه امتد كذلك إلى الأماكن الداخلية، التي نلحظ فيها صدق تجسيد الواقع في الكثير من مفردات الكادر. ففي داخل البيوت نرى كل شيء طبيعيًا وصادقًا، وحتى على السطح، الذي يسكن فيه المؤلف الشاب المحبط "أحمد ماجد"، نستطيع أن نميز أثر الفقر والعشوائية. فحتى الطبلية الملقاة بجانب الحائط نلمح بها "رقعة" من الخشب، توحي بأنها خربة وقديمة، وقد أجبر الفقر صاحبها على أن يرممها ببشاعة وانعدام ذوق، وهذا من إملاءات الفقر وتجلياته. وقسوة التنهيد.. والوحدة والتسهيد حتى الآن، فأنا أعد مسلسل "قهوة المحطة" من أجمل الأعمال التي قُدمت هذا الموسم، برغم اعتماده على نجم صاعد ليقوم بالدور المركزي – ولا أقول دور البطولة، فكل من شاركوا في العمل أبطال – وقد أحسن الفنان أحمد غزي استغلال الفرصة التي منحها له المخرج الكبير إسلام خيري، فظهر في العمل في صورة شبه مثالية، ليقدم وجهًا مصريًا حقيقيًا، به من شقاء المصريين وآلامهم، وبه من شهامتهم ونبلهم، وبه من رومانسيتهم وتهورهم. وقد أبدع أحمد غزي في أداء الدور وما به من منعطفات نفسية قاسية دون افتعال أو تَزيد، كما ظهرت الفنانة الشابة فاتن سعيد في أبهى صورة، لتقدم دور الفتاة العادية، المقهورة غالبًا، والقوية برغم الأسى، واستطاعت توظيف ملامحها النضرة البريئة لتقترب من قلوب المشاهدين بسلاسة ومحبة، لتعبر عن الفتاة المصرية وما بها من آلام. كما أعاد "إسلام خيري" تقديم العديد من الفنانين بصورة مبهرة، ونرى هذا في دور الفنان محمد الصاوي، الذي مثّل إضافة حقيقية للعمل، والفنان علاء عوض، الذي يظن الواحد، من فرط إتقانه لدور القهوجي، أنه خُلق لهذا الدور