قبل أيام مرت الذكرى ال29 لرحيل أحد أكبر الشعراء المُعاصرين، إنه محمد أمل فهيم أبو القسّام دُنقل والمعروف اختصاراً بأمل دنقل. دُنقل الذى قَدِمَ من السماء ليس من قريةِ قِفط فى صعيدِ مصر كما كُتب فى دفتر ولادته! كان ملاكاً نزل لكى يوحى بالشعر على مُتذوقيه فكتبَ ديوانه (السماوى) "العهد الآتى" ورأى الربُّ ذلك غيرَ حسن! طاردَهُ صوتُ الكمان وكان يقول لماذا إذا ما تهيأتُ للنومِ يأتى الكمان؟ وظفّ فى قصائده شخصيات تاريخية وأسقطَ عليها حوادثَ دهره فكتب، حديثٌ خاص مع أبى موسى الأشعرى، خطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين، مقابلة خاصة مع ابن نوح من أوراق أبو نواس، كلمات سبارتاكوس الأخيرة، وله ديوان بعنوان أقوالٌ جديدة فى حربِ البسوس، الديوان الذى يتضمن قصيدته الخالدة لا تُصالح. دُنقل "انتظرَ السيف" وشهِدَ "مقتل القمر" وبكى "بين يدى زرقاء اليمامة"وغنّى لل"الطيور" و"الخيول" وسامرَ "ماريّا" ساقية المشرب الإغريقية وسهِر فى "الملهى الصغير" الذى انزعج من تنكّرهِ له وكيفَ أنه عندما دخل لم تُشر إليه المائدة والمقعد لم يستضفه!! دنقل كان نصيراً للفقراء والمُعدمين أبناء طبقته التى جاء منها وكان "يتقدّسُ فى صرخةِ الجوع فوق الفراش الخشن" معلناً بذلك تضامنه التام معهم! أحبّ أمل مدينة الإسكندرية بل إنه عشقها وعشق رائحة بحرها الذى كان يلمحُ من خلال موجهِ وجهَ الربِّ يؤنّبه! ولذا أهدى ديوانه الأول مقتل القمر إلى تلك المدينة وإلى سنوات الصبا التى عاشها فيها عاشَ أمل ردحاً من عمره فى السويس تلك المدينة الدخانية التى عرفها شارعاً فشارعا، وجُرح فى مُشاحناتها وزار أوكار البِغاء واللصوصية! دُنقل دوّن "يوميات كهل صغير السن" وكتب عن تفاصيل ثورة يناير التى حدثت بعد رحيله بعقود فى قصيدته "أغنية الكعكة الحجرية"! كان رسّاماً فرسمَ "الموت فى لوحات" بديعات قبل أن يترّجل الموت من إحدى لوحاته ويقبض روحه فى العام 1983 بعد صراعٍ مع المرض وصفه صديقه الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى بأنه صراعٌ بين متكافئين الموتُ والشعر! ختاماً أقول بأنه يؤسفنى أن أمل لم يلق نصيبه من الشهرة كما لقيها أنصاف الشعراء اليوم، وإن كان أمل هو من اختار حياة الصعلكة! فقد كان يفضل قضاء النهار بأكمله فى مقهى "ريش" الشهير بوسط القاهرة مبتعداً عن حياة الترف والسيارات الفارهة وصالونات رجال الأعمال. ويعود مساءً إلى زوجته الصحفية عبلة الروينى حاملاً علبتى سجائر من نوع "دنهل" كما كتبت ذلك عبلة فى كتابٍ عن حياة أمل بعنوان الجنوبى. دنقل بالنسبة لى أسطورة لن تكرر وأستطيعُ الكتابة عنه إلى أن يُنفخ فى الصور ولا تفنى الأحرف! ألفُ حمامةٍ بيضاء ترفرفُ فوق روحكَ يا أمل.