رغم التقدم العلمى، وارتفاع نسبة التعليم بين الناس، إلا أن مهنة «العراف» لا تزال تحظى بمكانة واضحة فى حياة الكثيرين. والمثير للدهشة أن جمهور العرافين لا يقتصر على الجهلة أو البسطاء فحسب، بل يمتد ليشمل المتعلمين أيضا! فهم يجدون سوقا بين المثقفين والمتعلمين، ويفتحون لأنفسهم مساحات واسعة فى وسائل الإعلام، على سبيل المثال، نجد إحدى العرافات تظهر فور انتشار خبر طلاق بين فنانين مشهورين، لتعلن أنها تنبأت بهذا الطلاق قبل وقوعه بفترة، ولكن بقليل من التفكير البسيط، يمكننا أن نستنتج أن الطلاق السريع أصبح ظاهرة منتشرة فى مجتمعنا، وخاصة فى الوسط الفنى، بسبب الطبيعة غير المستقرة لمواعيد العمل الفنى، وتعارض هذه المواعيد مع الالتزامات الأسرية، لذا، فإن توقع حدوث مثل هذا الأمر ليس بالأمر المعجز. استمرار أى مهنة رغم التغيرات الاجتماعية دليل على رواجها، ومهنة العرافة ليست استثناء، حيث نجدها تظهر من وقت لآخر كظاهرة تتصدر المشهد وتجذب اهتمام الناس، بدءا من أبواب «حظك اليوم» فى الصحف والمجلات، وصولا إلى لقاءات العرافين على القنوات الفضائية، خصوصا فى أوقات معينة مثل نهاية العام، والمفارقة الساخرة أن تُستخدم وسائل تكنولوجية حديثة ومتطورة، كالتليفزيون أو الإنترنت، لترويج ممارسة قديمة ارتبطت بالمجتمعات البدائية أو المتأخرة. إذا سألت خبراء التسويق عن أسباب استمرار رواج هذه المهنة، فسيخبرونك أن أى منتج يبقى مطلوبا طالما وجد احتياجا لدى المستهلكين له، والعرافون يدركون أن هناك احتياجا لدى الناس لمعرفة ما يخبئه لهم المستقبل، طبيعة الإنسان تجعله يسعى دائما إما لتحقيق منفعة أو لتجنب ضرر، وعندما يزداد الخوف من المستقبل، خصوصا فى أوقات الأزمات أو الأحداث المفاجئة مثل الحروب أو الأوبئة، يلجأ البعض إلى العرافين طلبا للطمأنينة. العرافون استغلوا هذا الجانب النفسى لدى البشر لتحقيق مكاسب مادية وشهرة وانتشار واسع، أما فيما يخص «تحقق» بعض النبوءات، فهذا ليس دليلا على معرفة العراف بالمستقبل، بل يمكن أن يكون مجرد صدفة أو نتيجة لتحليل مسبق لبعض الظواهر. العبارة الشهيرة «كذب المنجمون ولو صدقوا» تلخص هذا الأمر، فحتى لو اتفق كلامهم مع الواقع، يظل ادعاؤهم بمعرفة الغيب كذبا. أما من الناحية التاريخية، فإن مهنة العرافة قديمة جدا، ترجع جذورها إلى أولى المجتمعات البشرية، طبيعة الإنسان تدفعه دائما إلى السعى لتحقيق مكانة واحترام داخل مجتمعه، فبينما كسب البعض هذه المكانة من خلال العمل الشاق أو الشجاعة فى الحروب أو المهارة فى الصناعات، لجأ آخرون إلى طرق مختصرة، مثل العرافة، لتحقيق هذه المكانة، العرافون الأوائل كانوا يتمتعون بملاحظات دقيقة وربط ذكى بين الظواهر الطبيعية والأحداث، على سبيل المثال، إذا لاحظ أحدهم انخفاض طيران الطيور البحرية، توقع هطول الأمطار، هذه أمور تبدو اليوم بديهية ومستندة إلى العلم، لكنها فى عصور ما قبل التاريخ كانت تُعد قدرات خارقة. مع تطور الحضارات، استمر دور العرافين والمنجمين لأنهم كانوا أذكياء بما يكفى لتطوير أدواتهم وأساليبهم، استفادوا من التقدم العلمي، خاصة علم الفلك، لتفسير الظواهر وربطها بمصائر البشر. على سبيل المثال، كانوا يربطون حركة الكواكب والنجوم بالظواهر الطبيعية والاجتماعية، ما أعطاهم مصداقية لدى الناس، ولأجل أن تكتمل «الحبكة»، يحيط العراف نفسه بطقوس وحركات مخيفة، أو ما يمكن وصفه ب«إكسسوار أو ديكور الشغلانة»، ففى الحضارة البابلية القديمة، كان العرافون يذبحون أضحية للآلهة، ويخرجون كبدها وهو لا يزال دافئا، ويدعون أن كبد الأضحية يكتب لهم نبوءات بطريقة لا يعرفها سواهم. والعرب قبل الإسلام، كان عرافوهم وكهنتهم يستخدمون لغة فيها سجع وألفاظ متناسقة وبليغة، يقدمون من خلالها نبوءاتهم وهو ما كان متماشيا مع طبيعة العرب الذين كانوا يعتبرون أن بلاغة القول قدرة خارقة، وفى منطقة سيبيريا فى روسيا، وكذلك فى وسط آسيا حيث تقع حاليا جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، كان الشامان يدعى اتصاله بقوى الطبيعة والأرواح، فكانت له ممارسات مثل التأمل لفترة طويلة، أو الصيام القاسى أو تعاطى بعض المواد المخدرة التى تدخله فى غيبوبة يقول خلالها نبوءاته التى يفسرها باتصاله بعالم الأرواح، وفى مصر فى واحة سيوة، كان تقوم معابد توصف بمعابد التنبؤات، ينام فيها من يدعى معرفة المستقبل ثم يعلن نبؤاته عند استيقاظه باعتبارها وحيا من الآلهة، وفى مصر القديمة كان العرافون بارعين جدا فى التلاعب النفسى، بمعنى أنهم كانوا يعتمدون أن من يصدقهم، تصديقه لهم سيؤثر على سلوكه بشكل يجعله يحقق النبوءة، فكان تحديدهم المسبق لأيام النحس يؤثر نفسيا فى المصدق لهم ويجعله غالبا يرتكب خطأ ما إذا خالفهم وقام بأى من الأعمال المحظور القيام بها فى هذه الأيام، وبالتالى سيؤكد صحة تحذيرهم. واستخدم العرافون القدماء ملاحظة تزامن وتناسق بعض الوقائع والظروف، فلو تزامنت بعض حركات الكواكب مع وقوع ظواهر طبيعية تؤثر سلبا على جودة المحصول، فإن هذا سيعنى ارتفاع الأسعار وقلة الأقوات، هنا لا يحتاج العراف سوى لإعلان نبوءة عما هو متوقع فى مثل تلك الظروف من اضطرابات اجتماعية واقتصادية وأمنية واحتمال وقوع ثورات أو اندلاع حروب، حسب قراءته المشهد، ولو لاحظ كثرة الفئران فهذا قد يكون مؤشرا لظهور وباء خاصة الطاعون، وهكذا. لكن المشكلة الحقيقية فى عصرنا الحالى ليست فى العرافين وحدهم، بل فى المجتمعات التى تستمر فى تصديقهم، الاعتماد على العرافين يغذى التواكل ويثنى الناس عن اتخاذ قرارات مبنية على العلم والمنطق، عبر التاريخ، أضفى الحكام الشرعية على حكمهم من خلال نبوءات كاذبة، كما استُخدمت العرافة كأداة للتأثير على الجماهير أو الأعداء. مثال على ذلك ما حدث فى الحرب العالمية الثانية، حين استغل وزير الدعاية النازى، جوزيف جوبلز، كتابات نوستراداموس للتأثير على معنويات الأعداء. حتى فى عصرنا الحالى، تطور العرافون وأصبحوا يظهرون فى ثياب أنيقة، يستخدمون الأجهزة الحديثة ويظهرون بثقة العلماء. ولكن علينا أن ندرك أن تصديق مثل هذه الممارسات يعيق تقدم المجتمعات. فالإنسان يتعلم من أخطائه، والمجتمعات تتقدم من خلال التجربة والخطأ. إذا سعينا إلى حياة خالية من الأخطاء أو رفضنا احتمال الخطأ، فإننا نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، ونسمح للخرافة أن تهيمن على العقل.