لست أذكر إذا ما كان الأمر اليوم، البارحة أو فى الأمس القريب، ولكن الذى أعرفه أن غزة اليوم استفاقت من كابوس رهيب، استفاقت وأخذت تلملم نفسها، تعبت من النوم طويلاً، وما إن استفاقت على دمار خلفته آلات الغدر التى مرت من هنا حتى عرفت بأن النوم الطويل لم يخلف إلا ألما ودما ونصرا اختلف عليه البعض ولكنها لمسته. البيوت سحقت كما الذكريات، الطفولة حوصرت وقطعت أشلاء ما عاد يجمعها حتى كفن ناصع البياض تبرعت به إحدى الدول العربية. قُبَل هنا واتفاقات هناك، موت هنا و سلام حار بالأيدى هناك، بكاء هنا وكلام وخطاب هناك، رجل يشكو موت كل أفراد عائلته وآخر يشكو من ضغوط مورست عليه من مجهول، امرأة هنا تبكى بناتها وبيت ابتلعته الأرض وامرأة هناك توقع أوراق اتفاق تشترى به دماء من قتلوا، طفل يشكو من فقد عينيه وآخر هناك يبكى، يهودية أصابها الهلع بمجرد سماع صفارة الإنذار التى انطلقت فى بلدتها، التى لم تعتد عليها، ولن تفعل يوما، المحاذية للقطاع. لغزة عزة لن تعرفها إلا إذا كنت هناك منها وفيها، إذا قررت هى أن توشوشك وتخبرك من أين تعلمت كل هذا، كانت منذ ولادتها مضطهدة، طفلة تواجه عدوانا آثما، صرخت مرات ومرات ولكن أحدا لم يسمعها، الكل كان مشغولاً بهمومه، الطفلة صارت فتاة يعتمد عليها؛ لقد علمتها الحياة وكثرة الاجتياحات أشياء كثيرة وحلمت بحياة أفضل، جلست مع نفسها وفكرت، قالت لدى خيارين: الأول يتمثل بالاستسلام والعيش بما يسمى نصف سلام ونصف حرب، أن أكون مستباحة كلما أراد الآخر اغتصابى، أن أمهد له الطريق، أن أكون حاضرة إذا ما طلبنى، والآخر يتمثل باعتزازى بنفسى أن أكون أنا، كما علمتنى الحياة، لست ضعيفة حتى لو تآمر على الأهل وبعض الأصحاب الذين كنت أظنهم كذلك، سأعرف حدودى، وأخط لهم حدودا، لن يتمادوا بعدها أبدا. جلست غزة بعد الصباح على شاطئ البحر، وحيدة تفكر بجراح لم تلتئم بعد، فكرت بأٌناس كانت تعرفهم، تمرغوا بثراها، اختبئوا بين بيوتها وأكلوا من بيارات البرتقال، برجال تلعثموا أمام جمالها الأخاذ، عشقوا شعرها الطويل المنسدل على كتفيها، وعيونها التى تحمل عمق البحر ولونه، لغزة ألف عشيق بذل نفسه من أجل حمايتها، الرجل من هؤلاء ترك منزلا وأطفالا، أب كبير فى السن وأم فقدت البصر من كثرة البكاء على أحباء افتقدتهم، ترك ما ترك وراح يحميها، هى بالذات لها حق عليه.