248.9 مليار جنيه قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة منتصف الأسبوع    الحكومة الألمانية: السياسة الحالية لإسرائيل خاطئة تماما ولا تخدم مصالحها الأمنية    مسيرات إسرائيلية تستهدف قوات رديفة لوزارة الدفاع السورية في ريف السويداء الغربي    ألمانيا ترسل طائرتين إلى الأردن لإرسال مساعدات إلى غزة    عاجل- السيسي: مصر تساند كل خطوة تدعم الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني    رد ناري من سيد عبدالحفيظ بشأن انتقال نجله ل الزمالك    مستقبل نبيل عماد دونجا مع الزمالك يُحسم الأسبوع المقبل بقرار من فيريرا    «لا تستسلم».. إمام عاشور يثير الجدل برسالة غامضة    غدا أولى جلسات محاكمة أحد الإرهابيين بتنظيم ولاية سيناء بمجمع محاكم وادي النطرون    مصرع عامل إثر سقوطه من الدور الرابع بالقليوبية    إقبال جماهيري على معرض الإسكندرية للكتاب في ثاني أيامه    خبير ل ستوديو إكسترا : مصر مركز المقاومة الحقيقي وهناك محاولة متعمدة لإضعاف الدور المصري    وزير الصحة: 578 مليون دولار تكلفة علاج جرحى غزة بمصر.. ووفرنا 12 مبنى سكنيا لأسر المصابين    يبدأ العمل بها 1 أكتوبر .. تعرف علي أسباب إنشاء المحاكم العمالية بالمحافظات واختصاصاتها    إصابة 3 أشخاص بطلقات نارية فى مشاجرة بمدينة إدفو بأسوان    رئيس حزب الجبهة الوطنية يكشف عن آلية اختيار مرشحيهم بانتخابات المجالس النيابية    هل ال5 سنوات ضمن مدة العمل؟.. تعرف على موقف نواب "الشيوخ" العاملين بالحكومة    عمرو دياب vs تامر حسني.. من يفوز في سباق «التريند»؟    «السياحة والآثار»: المتحف القومي للحضارة شهد زيادة في الإيرادات بنسبة 28%    خالد الجندي : الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    ترامب: سنعمل مع إسرائيل بشأن مراكز توزيع المساعدات في غزة    وزير الصحة يستقبل رئيس اتحاد الصناعات الدوائية بإيطاليا.. تفاصيل    لمرضى التهاب المفاصل.. 4 أطعمة يجب الابتعاد عنها    عاصم الجزار: تجربة مصر التنموية الأنجح منذ آلاف السنين.. والرقعة العمرانية ارتفعت ل13.7% خلال 10 سنوات    سعر ومواصفات 5 طرازات من شيرى منهم طراز كهرباء يطرح لأول مرة فى مصر    رئيس جامعة برج العرب في زيارة رسمية لوكالة الفضاء المصرية    نصائح للاستفادة من عطلات نهاية الأسبوع في أغسطس    حكم الرضاعة من الخالة وما يترتب عليه من أحكام؟.. محمد علي يوضح    تأجيل محاكمة المتهم بإنهاء حياة شاب بمقابر الزرزمون بالشرقية    من أجل قيد الصفقة الجديدة.. الزمالك يستقر على إعارة محترفه (خاص)    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    بدء انتخابات التجديد النصفى على عضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية    "3 فرق يشاركون في دوري الأبطال".. خالد الغندور يزف خبرا سارا    حتى لا تسقط حكومته.. كيف استغل نتنياهو عطلة الكنيست لتمرير قرارات غزة؟    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    تكريم دينا الشربيني في أمريكا كأيقونة عربية ناجحة    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    برلمانية تطالب بإصدار قرار وزاري يُلزم بلم شمل الأشقاء في مدرسة واحدة    20% من صادرات العالم.. مصر تتصدر المركز الأول عالميًا في تصدير بودرة الخبز المُحضَّرة في 2024    الحرارة الشديدة مستمرة.. 3 ظواهر جوية تضرب مصر غدًا    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    وزير العمل: مدرسة السويدي للتكنولوجيا تمثل تجربة فريدة وناجحة    وزارة الأوقاف تعقد (684) ندوة علمية بعنوان: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    جولة مفاجئة لمحافظ الدقهلية للوقوف على أعمال تطوير شارع الجلاء بالمنصورة    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    مجمع إعلام القليوبية يطلق أولى فعاليات الحملة الإعلامية «صوتك فارق»    «بيفكروا كتير بعد نصف الليل».. 5 أبراج بتحب السهر ليلًا    أُسدل الستار.. حُكم نهائي في نزاع قضائي طويل بين الأهلي وعبدالله السعيد    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في شمال سيناء    الكهرباء: الانتهاء من الأعمال بمحطة جزيرة الذهب مساء اليوم    السيطرة على حريق بمولد كهرباء بقرية الثمانين في الوادي الجديد وتوفير البديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا نمزق نسيج الماضى والمستقبل؟
نشر في اليوم السابع يوم 02 - 01 - 2009

تبدأ الحكاية بالخبر الصدمة. خبر فى الصفحة الأولى من جريدة «الجمهورية» بتاريخ 21/11/2008 من ثمانية أسطر عنوانه: «حلول مؤقتة لأزمة سيارات غزل كفر الدوار 4.6 مليون جنيه لتجديد التراخيص 3 شهور». أما مضمون الخبر فهو: «عادت أكثر من 55 سيارة تابعة لشركة غزل كفر الدوار للعمل مرة أخرى، بعد توقف عدة أيام لعدم تجديد تراخيصها، لوجود مديونية على الشركة لصالح التأمينات الاجتماعية ،210 ملايين جنيه. وافق المهندس محسن الجيلانى، رئيس الشركة القابضة للغزل، على صرف 4 ملايين و600 ألف جنيه لسداد حصة التأمينات الاجتماعية لمدة ثلاثة شهور اعتبارا من 13 الجارى. تسببت الأزمة فى غياب العمال المقيمين بالإسكندرية والمناطق النائية بكفر الدوار عن العمل، واضطرت الشركة لنقل العمال بسيارات مؤجرة». انتهى الخبر.
فى الخبر إذن إدارة وعمال وآلات ومصانع وشركة، كانت لعقود طويلة إحدى درر الصناعة المصرية. صناعة هى بذاتها الأقدم والأعرق فى مصر والأكثر استخداما للعمالة. كفر الدوار ذاتها استمرت كإحدى قلاع الصناعة المصرية لأكثر من سبعين سنة. وبينما المدينة تضم 4 شركات كبرى و46 مصنعا، فإن نسبة البطالة بين أيديها العاملة تجاوزت سبعين بالمائة مؤخرا، وعمالها المعطلون جاوزوا 25 ألف عامل. أما إذا تحدثنا عن صناعة الغزل والنسيج المصرية بعمومها فإن تحولها من قلاع حصينة (32 شركة) إلى خرابات متلاحقة هو بالضبط ما جعل النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج، تصدر قبل سنة تقريرا بعنوان «أنقذوا صناعة النسيج أوأعلنوا وفاتها». هذا هو أيضا ما جعل مصباح قطب ينشر (جريدة الأهالى 10/5/2006) تقريرا صحفيا عما جرى لكفر الدوار واختار له عنوانا إنذاريا هو «قلعة صناعية تحولت إلى خرابة».
من يقرأ تلك التقارير على ضوء الحقائق المؤكدة سابقا، لا بد أن يشعر مثلى بالصدمة. فصناعة الغزل والنسيج فى مصر عمرها يتجاوز سبعين سنة. وسواء بدأنا بالمحلة الكبرى أو بكفر الدوار أو بشبرا الخيمة، فإن المصريين جيلا بعد جيل درسوا فى صباهم، أن الاحتلال الإنجليزى فى مصر كان حريصا على أن تظل مصر دولة زراعية، وحريصا بدرجة أكبر على أن تستمر مصر فى زراعة القطن طويل التيلة الذى تتميز به، لكن بشرط أن تصدره قطنا خاما لتحوله مصانع مانشستر فى انجلترا إلى غزل ومنسوجات، تبيعها وتصدرها بأضعاف أضعاف ثمن القطن الذى حصلت عليه من مصر.
المصريون جيلا بعد جيل يعرفون أيضا أن طلعت حرب أقام «بنك مصر» استثمارا للمشاعر الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 فى مجال الاقتصاد، وكان هدفه هو ترجمة الوطنية السياسية إلى وطنية اقتصادية. وهكذا، بودائع المصريين فى بنك مصر، أقام طلعت حرب سلسلة من الشركات متعددة النشاط، كان فى طليعتها شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج، ثم فى كفر الدوار أيضا بالمشاركة مع آخرين وهكذا. وحينما أصبح تصنيع مصر هدفا عاجلا بعد انتهاء الاحتلال الانجليزى فى 1956، كان طبيعيا أن تشمل الخطة الأولى تطويرا وتوسيعا وإضافة لصناعة الغزل والنسيج. أولا كان هذا استثمارا لجودة وتميز القطن المصرى. وثانيا لخلق عشرات الآلاف من فرص العمل المطلوبة بشدة، لفتح أبواب الرزق الحلال أمام الشباب. وثالثا لتوسيع موارد الاقتصاد المصرى، حتى يصبح قادرا على تمويل الخدمات الجديدة: التعليم المجانى وشبكات الكهرباء والرعاية الصحية وشبكات الطرق والكبارى.. إلخ.
هكذا جرت إقامة قطاع عام والتوسع فيه اختصارا للزمن، وتعويضا عما فات ،ولحاقا بعصر تلعب فيه الصناعة دورا أساسيا فى نهضة الأمم. جزء أساسى من كل هذا كان صناعة الغزل والنسيج. وأصبحت الشركات جميعا تسدد الضرائب وتدفع الجمارك، وتشترك فى التأمينات ،وتتيح الأجور المرتفعة، والخدمات المعقولة لعشرات الآلاف من العمال. وبعد أن تحتجز الجزء المناسب من أرباحها للصيانة والتوسعات المستقبلية تسلم الدولة صافى أرباحها أولا بأول.
بالتخطيط السليم والإدارة الخبيرة تحول مصنعا الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى سنة 1956 مثلا إلى 8 مصانع للغزل و14 مصنعا للنسيج و8 مصانع للملابس الجاهزة و4 مصانع للقطن الطبى، وقطاع تجهيز يقوم بتجهيز مليون متر يوميا، والشركة إجمالا تستهلك يوميا 140 طن غزل ،وهو ما يوازى 3 أضعاف ما تنتجه كل مغازل القطاع العام والخاص يوميا. توسعت الشركة لتصبح مساحة أراضيها 350 فدانا، منها 70 فدانا مساكن و120 فدانا للمرافق، بخلاف الخدمات المتنوعة للعاملين فيها، بما فى ذلك مطعم ضخم لتقديم الوجبات الغذائية للعاملين بأسعار رمزية ثم خدمات صحية وتعليمية و.. و.. كان هذا مجرد نموذج متكرر فى الصناعات المصرية الأساسية الأخرى.
ماذا جرى بعد هذا كله، لكى تصدر النقابة العامة للغزل والنسيج دراسة تنشرها الصحف بعنوان: « الحكومة دمرت صناعة الغزل والنسيج وشردت 150 ألف عامل» كما فى جريدة «البديل» فى 25/11/2007؟ ماذا جرى حتى تتحول شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج من الربح إلى الخسارة، وينكمش عدد العاملين بها من 44 ألفا فى سنة 1972 إلى 26 ألفا فى 2008؟ ماذا جرى حتى تتوالى خسائر شركة كفر الدوار للغزل والنسيج ويصل معها الخراب إلى مستوى العجز عن تجديد رخص السيارات التى تنقل العمال إلى المصانع؟ ثم قبل هذا كله: ماذا جرى لكل هذه الصناعة العريقة التى استمرت مصر متفوقة بها، وسابقة فيها تاريخيا لعشرات السنين؟ وأيضا.. ماذا جرى للقطن المصرى الذى تعتمد عليه هذه الصناعة، بحيث تراجعت المساحة المزروعة قطنا من مليون فدان فى سنة 1990 إلى 300 ألف فدان فى سنة 2008 لتصبح هذه هى المساحة الأقل منذ 120 سنة؟ وهل نحن نتقدم أم نتراجع؟ نضيف صناعات جديدة إلى ما تركه لنا آباؤنا أو نخرب صناعات ناجحة قائمة، فنسد أبواب الأمل والرزق أمام أولادنا؟
الأسئلة عديدة والإجابات غائمة ومراوغة. لكن نقطة البداية كانت المشورة المسمومة الواردة إلى مصر رأسا من أمريكا.. سواء مباشرة أو من خلال البنك الدولى وصندوق النقد الدولى. النصيحة هى اقتصاد السوق وتحرير التجارة. من زاوية اهتمامنا هنا، وحسب دراسة النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج، فإن: «أول مسمار ضخم فى نعش صناعة الغزل والنسيج المصرية، كان قرار الحكومة فى سنة 1995 بتحرير تجارة القطن». طبعا غطاء العسل هنا كان: لماذا لا يحصل الفلاح المصرى على ثمن للقطن يتماشى مع الأسعار العالمية؟ أما السم الهارى فهو: إن هذا سيخرب الأساس الاقتصادى لكل صناعة الغزل والنسيج.
هذا هو ما جرى فعلا. فشركة المحلة مثلا كانت تستهلك سنويا مليون قنطار قطن . وفجأة اعتبارا من سنة 1995 أصبح عليها أن تشترى القطن بزيادة مائة جنيه، بما يحملها مائة مليون جنيه إضافية قابلة للزيادة سنة بعد سنة. وحينما صرخت الشركات كلها قالت لهم الحكومة: ابحثوا عن قطن أرخص. هذا يعنى استيراد قطن قصير التيلة من الخارج لأنه الأرخص. هنا يصبح الخراب مزدوجا. فالفلاح المصرى لم يعد يجد من يشترى منه القطن بسعره العالمى، والشركات نفسها بدأت آلاتها تتعطل لأنها مجهزة للتعامل مع القطن طويل التيلة وليس أى نوع آخر.
زاد من الخراب، ومرة أخرى حسب المشورات المسمومة إياها، أنه اعتبارا من سنة 1991، بدأت الحكومة تستولى بالكامل على كل أرباح شركات الغزل والنسيج، بما فى ذلك اعتمادات الصيانة والتحديث والتوسع. أما إذا أرادت الشركة ضخ استثمارات جديدة فعليها بالاقتراض من البنوك التجارية، وبأسعار الفائدة السائدة. وحسب محسن الجيلانى رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج فى تصريحات صحفية مؤخرا (البديل 27/12/2008) فإنه أصبح مفهوما منذ 1991 أن وقف الاستثمارات الجديدة فى شركات القطاع العام هو مقدمة لبيعها وخصخصتها.
من باب حرية التجارة واقتصاد السوق، أصبحت السياسات الجديدة المفاجئة إذن تؤدى عمليا.. إما إلى بيع الصناعات الرابحة بسعر التراب.. أو خنق الصناعات الباقية لتصبح متصلبة الشرايين، فتصفى أو تباع بما هو أقل من التراب. وحينما فتحت الحكومة المصرية الأبواب لاستيراد أقطان قصيرة التيلة باعتبارها الأرخص من القطن المصرى فوجئت الشركات بعملية إغراق شاملة. بمعنى أن الهند أو اليونان أو أوزبكستان مثلا، تصدر قطنها إلى مصر بأقل من سعره داخل أسواقها هى. وحينما صرخت الشركات المصرية للحكومة من هذا الغش فى المنافسة، استمرت الحكومة تراوغ فى حماية الصناعة المصرية لمدة سنة، ثم أصدرت قرارا بفرض رسوم إغراق على القطن المستورد. لكن القرار جرى إلغاؤه بعد ثلاثة أيام فقط حسب ما كشف عنه رئيس شركة المحلة.
وهكذا ففى كل الحالات أصبح محكوما على الشركات المصرية بالخسارة عمدا أو جهلا. فإذا اشترت القطن المصرى ترتفع تكلفتها وتعجز عن المنافسة. وإذا اشترت قطنا مستوردا فقدت ميزتها الأساسية عن الدول الأخرى، فتخرج أيضا من المنافسة. فوق هذا كله ومرة رابعة ،حسب الشعار المضلل بتحرير التجارة، خفضت مصر الرسوم الجمركية على الأقمشة المستوردة . وحينما توسعت فى إقامة المناطق الحرة أصبحت تلك المناطق منافذ صريحة لتهريب الأقمشة الأجنبية إلى الداخل بلا أى رسوم أصلا، فتطرد الإنتاج المصرى - قطاعا عاما وخاصا- من سوقه الطبيعى داخل مصر. وقد ذهلت مما قرأته على لسان محسن الجيلانى، رئيس الشركة القابضة فى 27/12/2008 حيث يقرر أنه أصبح لدينا داخل مصر 18741 منطقة حرة. من خلال تلك المنافذ، يقوم الموردون بإدخال ما يشاءون من بضائع وسلع معفاة من أية رسوم أو ضرائب. بالطبع هذه ليست مسئولية الدول الموردة، ولكنها مسئولية مصر أساسا، لأن حكومتها وضعت سياسة مليئة بالثغرات: «نحن نطالب بالتغيير وتضييق الخناق على التهريب لكن ليس هناك من صدى لكلامنا» حسب الجيلانى.
فى الخلاصة يقرر رئيس الشركة القابضة أنه فى سنة 2007 وحدها بلغت خسائر شركات الغزل والنسيج فى القطاع العام 1700 مليون جنيه بدون الفوائد، وينتظر أن ترتفع إلى 2000 مليون فى سنة 2008، جزء كبير منها فوائد متأخرة. وبينما أسقطت الحكومة مئات الملايين من ديون الكبار الذين نهبوا البنوك، فإنها مع شركات القطاع العام تحديدا، ترفع شعار الصراط المستقيم.
تلك الأرقام الصماء لا تعنى فقط خرابا فى الاقتصاد المصرى. تعنى أيضا خراب صناعات عريقة، وخراب بيوت عمال مهرة وذوى خبرة، يستعصى عليهم فهم هذا الذى يجرى. بالنتيجة توالت الشكاوى بلا جدوى. بعدها الاحتجاجات ثم الإضرابات و.. و..
ذات يوم نشرت الصحف فى 8/5/2006 تغطية موسعة لزيارة غير مسبوقة قام بها ثلاثة وزراء إلى مصانع الغزل والنسيج بكفر الدوار. العناوين كانت: «وزراء الاستثمار والتجارة والصناعة والقوى العاملة: إعلان برنامج الرئيس لتحديث منطقة كفر الدوار للغزل بإشراف رئيس الوزراء، تخفيض المديونيات.. الأولوية لإعادة هيكلة الشركات.. بيع الأصول غير المستغلة، 375 مليون جنيه استثمارات عاجلة للشركات الأربع».
فى الزيارة خرج عامل أصله من قنا وعمره 56 سنة ليقول: «هذه الشركة كانت مربيانا ومعلمانا ومجوزانا ومحججانا، ودلوقتى علشان تدخل مصنع الحرير الساعة 8 بالليل، لازم يكون معاك سلاح أو شومة لأنه فيه ديابة وثعابين». عامل ثان لفت أنظار الصحفيين المرافقين إلى المسرح المغلق فى شركة الغزل الرفيع، والسينما المغلقة قريبا منه، وملعب كرة القدم الذى تحول إلى مجموعة من الحفر ،ومساكن المهندسين التى تردت أوضاعها من الإهمال. عامل آخر من بين ال 18 ألفا بتلك الشركات، استحلف الصحفيين لزيارة المخازن حتى يشاهدوا إنتاجا معبأ فى كراتين وصناديق منذ 12 سنة وأصبح راكدا من وقتها. عمال آخرون صمموا على أن يرى الوزراء الثلاثة بأعينهم ماكينات غزل ونسيج تم شراؤها واستيرادها فى سنة 1980، لتظل فى صناديقها من يومها بعد أن تخلت الإدارات التالية عن أى تحديث أو تطوير. و.. و.. و.. فأما رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة ،فكل ما قاله يومها هو إنه شديد الحزن لما يراه، خصوصا أنه قضى تدريباته الدراسية فى هذه المصانع تحديدا حينما كان طالبا بكلية الهندسة، ووقتها كانت تصدر إنتاجها إلى العالم كله. وللذكرى صور الوزير أحد العنابر المتدهورة بكاميرا تليفونه المحمول. وزير الصناعة يصور للذكرى.. ليس إلا.
وأما وزير الاستثمار محمود محيى الدين، فقال يومها: هذه الأوضاع القائمة غير مقبولة، وهو لن يضيع وقته فى تحديد المسئول عنها لأنه سيشرع فى الإصلاح والبناء من جديد. وسرعان ما تكشفت وتوالت خطوات ذلك الإصلاح الموعود.
فأولا: فى 23/5/2007، قامت شركة كفر الدوار للغزل والنسيج بأوامر من وزير الاستثمار، ببيع مساحة 263 ألفا و700 متر مربع من أراضيها. البيع تم من غير مزاد وبالأمر المباشر وبسعر 200 جنيه للمتر، بينما سبق للشركة أن باعت أرضا مجاورة بسعر 1230 جنيها للمتر. وبحسبة بسيطة تكون الشركة المطلوب إصلاحها قد خسرت من جديد أكثر من مليار جنيه. وحينما تقدم زكريا الجناينى نائب كفر الدوار بسؤال فى مجلس الشعب إلى وزير الاستثمار، قيل له إن الشركة باعت الأرض إلى الهيئة العامة للتنمية الصناعية التابعة لوزارة الصناعة والتجارة، وهى التى ستتصرف تاليا فى الأرض كما تشاء.. ولمن تشاء.
ثانيا: قام محمود محيى الدين وزير الاستثمار فى مطلع ديسمبر الجارى بزيارة خاطفة إلى كوريا الجنوبية استغرقت يومين ونصف اليوم، ونشر الصحفيون المرافقون له بعدها أنه نجح فى التفاوض مع الكوريين لإقامة أربعة مصانع فى مصر لإنتاج الملابس الجاهزة.
ثالثا: أضيف هذا إلى ما سبق لرشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة أن أعلنه، عن أول منطقة صناعية صينية فى مصر غرب خليج السويس . علما بأن بدعة المناطق الحرة هذه تعنى عمليا أن الشركات العاملة فيها معفاة من الضرائب والتأمينات ،ومن حقها تشغيل عمال أجانب فضلا عن حقها فى تحويل أرباحها إلى بلادها أولا بأول. بنفس الأسلوب حصلت شركات نسيج تركية على مليونى متر مربع فى «6 أكتوبر» لتعمل فيها بأسلوب وامتيازات المناطق الحرة.
رابعا: فى 27/12/2008 أعلن الوزير رشيد محمد رشيد أيضا عن منطقة عالمية لصناعات النسيج باستثمارات مليار جنيه، مؤكدا «أن هناك إقبالا كبيرا من كبريات الشركات العالمية للملابس الجاهزة لإنشاء فروع لها فى مصر». فى نفس العدد تحقيق صحفى بعنوان «قبل أن تدخل صناعة الغزل والنسيج غرفة الإنعاش.. أصحاب المصانع يصرخون: المنافسة غير العادلة مع المنتجات الأجنبية والتهريب وقلة الأقطان أزمتنا». فى هذه المرة كان المستغيثون أصحاب مصانع نسيج من القطاع الخاص.
فى نفس اليوم، وبجريدة »البديل« كان رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج يعلن: «نية الحكومة المصرية تتجه لغلق شركات الغزل والأمر مش محتاج ذكاء ولا مفهومية».
لقد عدت إلى تصريح مدو سابق لوزير الصناعة والتجارة فى 8/7/2008 يقول فيه: «الحكومة لن تسمح بخروج صناعة الغزل والنسيج من مصر». هى لن تخرج. فقط ستخرج أرباحها من أرض مصر لتضيف إلى اقتصاد وقوة دول أخرى.. وسيخرج عشرات الآلاف عندنا إلى سوق البطالة.. وستخرج العقول من رؤوسنا عجزا عن فهم هذا الذى يجرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.