صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة إشراقات جديدة، ديوان "كم الوقت" للشاعر إيهاب البشبيشى، يشتمل الديوان على 11 قصيدة من شعر التفعيلة، وعلى دراسة مرفقة به كتبها الشاعر والناقد د.مختار أبو غالى عن المجموعة بعنوان "الشعر ومعاناة الزمان". يحفل ديوان إيهاب البشبيشى بلغة شعرية خاصة بصاحبها، وإلى جانب دقته اللغوية وحرصه على خلق نموذج فنى خاص به، يتمته بعدسة تصويرية شديدة الرهافة، يقول إيهاب فى قصيدة بعنوان "مسافة": حينما تجلسينَ على المقعدِ المتأرجحِ حين تجيلينَ من خللِ الضوءِ عينيك والقلمُ المتوترُ يرقبُ خلفَ الزجاجِ نقيرَ السحابْ بينما تلمسينَ على البعدِ زراً لكى تشعلى المدفأةْ فاستهلى كلامَكِ بالحبِّ.. كما يظهر فى الديوان حرص كبير على دقة البناء المعمارى للقصيدة وصرامتها، من خلال استعمال تقنيات جديدة تضيف للنص ترابطاً وهندسية عالية الجودة، ويظهر ذلك جلياً فى قصيدة "ضحكئذ"، والتى تخضع لنظام الترابط الرياضى، فيستخدم فيها مصطلحات المعادلات الرياضية من "مثلاً، إذن"، فى قصيدة تتحدث عن "البهجة" التى تهرب من يدى صاحبها وتراوغه وتظل تضحك له من بعيد، لينقله ضحكها لمساحات واسعة من الخيال والتوتر، ويعود به إلى جو الألفة والطفولة متخطياً المنطق القاسى للحياة ورتابتها، يقول: ضحكُها الآخِذُ صوتَ الظلالْ والسنا المخبوءُ خلفَ التلالْ ضحكُها الطالعُ نخلَ الصِبَا لسباطاتِ الرؤى والخيالْ .. ضحكُها الرائقُ روقَ الندى لا الملاقى ذاتَه فى المثالْ ضحكُها الهاربُ من حصةِ المنطقِ القافزُ سورَ السؤالْ .. ضحكُها والأولياتُ لا تنتهى والمرتجى لا يزالْ لغةٌ تعرفُ ألاَّفَهَا كلُ بينٍ فى مداها اتصالْ.. ومن قصائد الديوان الرائعة قصيدة "كم الوقت"، والتى جاء الديوان باسمها، والمهداة للشاعر مدحت قاسم، ويبدأها بإرباك تصويرى للقارئ، حين يتساءل فى مستهلها "كم الحزن" و"كم اللون"، وهذا لا يجوز وفق قواعد النحو العربى، فلا يجوز السؤال بكم عن اللون أو عن الشىء المجرد كالحزن، ولكن إيهاب يستطيع أن يصل لدرجة كبيرة من الإجازة الفنية التى تسمح له بتغليب الفن على مستوى الصحة، عن طريق تكسير المنطق العادى فى تركيب الجمل: كم الحزنُ يا سيدى؟ : كلُ نبضةِ فرحٍ تَقَاذَفُها الحسراتْ كم العمرُ يا سيدى؟ : ألفُ صيفٍ نحرتُ على مقصلِ الأمنياتْ كم اللونُ يا سيدى؟ : شفقىٌ تلبّدُ حمرتُه بالرمادْ كم الوقتُ يا سيدى؟ : قربَ مشرقِ شمسٍ من الغربِ قربَ شتاتِ الشتاتْ.. وفى نفس هذا النص الذى يتحدث فيه الشاعر عن تجربة الشاعر مع الشعر وعذابه الذاتى المؤلم وتوحده مع آلامه وآلام عصره التى ينزفها على مفرش الشعر، هو الفرح الأليم واللذة المكللة بالعذاب، تشبه وجع الصوفية "وجعاً أبيض القلب" لا يدركه إلا من ذاقه، يقول الشاعر: لم تَشْكِ يوماً جرَاحَكَ لكنها نَزَفَتك على مَفرشِ الشّعرِ فى الأمسياتْ فكيفَ تشاركُنا الضحكَ كيفَ ولسنا نشاطرُك الطَعناتْ أياً قادماً من زحامِ المدينةِ وجهُكَ مبتسمٌ تتوكأُ حيناً على قلبِكَ الجزورينَ وحيناً على خَيزُرَانِ السكاتْ حاملاً فى حَقيبَتِكَ القنبلاتِ وفى صدركِ السنبلاتْ لقد أنبأتنى مواويلُكَ البيضُ عن وجعٍ أبيضِ القلبِ عن تعبِ النخلِ فى وجهكَ الطفلِ عن سنواتِ الفواتْ.. كما تجىء قصيدة "أشرعة المنتهى" لتقدم تجربة بالغة العزوبة، يعبر الشاعر من خلالها عن تجربة افتراض وجوده، ويقدم فروض الولاء لذاته من خلال المحبوبة التى يؤرخ لعمره من خلال حبها، والتى يصفها فى قصيدة أخرى بال "موغلة فى الجمال وجارحة كندى"، يقول: غائباً كنتُ لكننى حين ألفيتُ عينيك ألفيتُ فيك حضورى جاهلاً كنتُ بالوقتِ لكننى منذ جئتُ بدأتُ أؤرخُ للحادثاتِ وأصنعِ تقويمَ عمرى القصير.. وفى نفس القصيدة، أيضاً يأخذنا الشاعر فى رحلة منهكة ممتعة يتقاطع فيها الزمان مع المكان، وينعكس من خلالها وعى الشاعر بمسار التيار الأساسى لعالمه الخاص، كما يقول د.مختار أبو غالى فى دراسته، فهى رحلة الطير فى مسار هروبه من الخطر بحثاً عن شواطئ أخرى يقيم بها، على خوف، هى رحلة الوصول إلى الحبيب، مشبهة لرحلات الطير فى كتاب "منطق الطير" للصوفى العظيم فريد الدين العطار، ولا يمكننا إلا أن نرحل معه فى رحلة الألم العذب: على الطيرِ حين يجئُ الخريفُ مهاجرةَ الشطِّ بحثاً عن الدفءِ عن شاطئٍ آخرٍ وسهولٍ أُخرْ عن أناسٍ يجيئونَ كى يسمعوا شَدْوَهَا ويروا فى ابتهاجةِ ألوانِها للعيونِ محطْ.. .. ولم يبقَ للطيرِ غيرَ مهاجرةِ الشطِّ فى صمتِه القروىِّ وفى حزنِه البحرىِّ النبيلْ وإذ أنتِ لم تأذنِى بالبقاءِ فأذنى بالرحيلْ..