أثناء جلوسى أمام التليفزيون فوجئت أن احتفالاً كبيراً يجرى فى أرض الجزيرة.. رأيت زينة وبرجاً حديدياً نحيلاً وعالياً جداً نبت فجأة من باطن الأرض، ثم أفادتنى المذيعة، أو المذيع، أن ما أرى دخل موسوعة «جينيس»، «وهى الموسوعة البريطانية التى جرى تأسيسها فى العام 1955 لتسجيل أعلى الأرقام القياسية»، باعتباره البرج الأعلى فى العالم، وأن علماً لن يلبث أن يرتفع عليه. أدهشنى، بداية، أن يطلع هذا الشىء فى غفلة منى، ثم أرجعت هذه الغفلة إلى أن سنوات طويلة مضت من دون أن أرفع وجهى عالياً باحثاً عما طرأ فى السماوات من فوقى، هكذا جلست صامتاً حتى رأيت العلم وهو يرفع إلى قمة هذا البرج الحديدى النحيل العالى، ويستقر هناك عند قمته، وهى قمة مستطيلة بها عصى من حديد متقاطع، وما إن استوعبت المشهد جيداً، ورأيت العلم مسترخياً إلى جوار ذلك المستطيل الخشن، حتى وجدتنى غير راض، بعدما شعرت أن العلم هكذا فى غير موضعه.. لقد افتقدت «السارية»، تلك المفردة الجميلة المشحونة بالإيحاءات، والتى تضفى على الأعلام مهابة وجمالاً، وتثير فى النفس ما تثيره من اعتزاز وطمأنينة، حتى لو كانت عصا مثبتة على سطح مبنى، أو مائلة فى شرفة شقة صغيرة. هكذا قلت فى نفسى إن الأمر انتهى ولا مفر. رحت أفكر أنهم لن يستأصلوا ذلك المستطيل ويضعوا مكانه سارية حقيقية أسطوانية وعالية، على الأقل حتى لا يشتبك العلم الذى لا يتناسب حجمه أبداً مع هذا الارتفاع الشاهق مع الحديد المتقاطع ويظل مسترخياً فى مكانه، غريباً وفى غير موضعه. إنه بحالته تلك إضافة أخرى إلى أشياء صنعناها بأيدينا ثم بحت الأصوات من أجل تداركها من دون فائدة، الشوكة المسماة تمثال طه حسين، والتى لا تعرف كيف تراها بينما التمثال المدهش الذى صنعه له مثالنا الكبير «الوشاحى» ملقى هناك فى مخازنه، تمثال عبدالمنعم رياض الذى يفتقد الوقفة الشامخة التى عرفناها للقائد المصرى الشهيد والملهم والضائع بين أعمدة الإنارة الحجرية المبعثرة من حوله، تمثال نجيب محفوظ بكتلته البائسة واقفاً فى زحمة لا تجد مجرد زاوية من الممكن أن تراه منها، ضائع هو الآخر فى وقفته مثل محصل كهرباء كسول، والذى ما أن رآه المبدع الكبير حتى قال: واضح أن من عمله لم يقرأ لى سوى رواية «الشحات». لم يعد بوسعنا أن نقيم شيئاً نعتز به مثلما فعل الأجداد الأقربون، أين نحن من تماثيل فى قامة سعد زغلول أو نهضة مصر أو مصطفى كامل أو طلعت حرب أو محمد فريد أو غيرها من بنايات هى أثمن ما نملكه، وتجار الموبيليا كانوا استأجروا صوانى الميادين أو تقاطعات الشوارع فى طريق النيل لكى يقيم كل منهم نافورة نظر بالإعلان عن بضاعته، وكنت أرى العمال وهم يعملون بهمة تحت إشراف صاحب المحل، كان العامل منهم يقوم ببناء حائط النافورة من الطوب الأحمر الكسر ثم يكسوها مع أرضيتها ببلاطات من سيراميك الأرضيات فرز ثالث ويضع وسطها حنفية أشبه بحنفية المطافئ «وإديها مية» ثم يقيم فوقها أعمدة خشبية تحمل لافتة ملونة باسم محل الموبيليا وعنوانه ورقم التليفون، أيام ويبدأ العيال يشلحون ويطرطرون فيها ويطرطشون الماء على أنفسهم، إلا أن الحنفية لا يلبث أن يصيبها العطب وتتوقف عن الضخ، ويبدأ التراب يدوم فيها وتنتهى إلى ملجأ للقاذورات. كنت أرى ذلك فى الذهاب والإياب وأتذكر ما نراه فى عواصم العالم من بنايات أو تماثيل أو نوافير أو أعلام أو غيرها، وكيف تملأنا بالغيرة والحسرة، ولا مفر من القول أخيراً بأن الجمال أو القبح المادى فى أى مكان ما هو إلا تجسيد لما داخل الناس. لو أن المسؤول عندنا تخلص من ظنه بأنه يفهم فى كل شىء، واستعان بأهل الاختصاص وهم كثر، لكن كيف؟