فى الأول من نوفمبر قبل 76 عاماً ولد المفكر الكبير إدوارد سعيد، وغاب عن العالم فى الوقت الذى كان من الضرورى أن يكون فيه، خاصة فى ظل ما تشهده المنطقة العربية من تغيرات أعقبت "الربيع العربى"، ومفاوضات تشهدها الساحة الفلسطينية، لكنه لم يغب تماما عن المشهد، وعاد إلينا بقبعته السوداء فى شوارع تونس مقاوما، ثوار "الياسمين" اتخذوا من كلماته وقوداً معنوياً وأباً روحياً للقيم الثورية العليا، فرسموا صوته على الحوائط وكتبوا كلماته عليها "أن تخلق..هو أن تقاوم"، وهذا هو الشعار الذى اتخذته حركة "أهل الكهف"، وهى حركة فنيَّة شبابيَّة تونسيَّة مناهضة للعولمة والاستشراق، وليدة رحم الثورة للتأكيد على أن الثورات تخلق وعياً مغايراً.. عن طريق فن "الجرافيتى" يصورون رموز التغيير والمقاومة ويبرزون على الحوائط المقولات التى لم يطّلع عليها الكثيرون بفعل ما قامت به الحكومات الديكتاتورية السابقة من قمع وتهميش للأفكار التى من شأنها أن تربى وعياً بالضرورة يصبح قادراً على وضع صياغات جديدة لمجتمعات عانت طويلا من التغييب. رحلة إدوارد سعيد الممتدة فى الثقافات والعلوم والأيديولوجيات لم تمنعه من الاشتباك مع الواقع العربى الملتبس، وبرغم أنه عمل كأستاذ للأدب المقارن بجامعة كولومبيا بنيويورك، وله مؤلفات عدة فى هذا المجالات الأدبية والنقدية، ولكنه برز كأحد المناهضين لرؤية الغرب الضيقة الدونية للشرق، والتى كان يؤكد دائما أنها تخدم مشروعات الغرب الاستعمارية، ويأتى مؤلَفه "الاستشراق" كأحد أهم الدراسات التى تناولت هذه القضية، ويعد أوسع مؤلفاته انتشارا؛ ولا تخفى مواقفه وكتاباته على أحد من المهتمين بالشأن الفلسطينى فقد كان من أشد المعارضين لاتفاقية أوسلو، واعتبرها صفقة خاسرة للفلسطينيين أدت إلى استقالته من المجلس الوطنى الفلسطينى، ومؤلفاته فى هذا الشأن "أوسلو: سلام بلا أرض" و"مسألة فلسطين". كما أسس "المبادرة الوطنية الفلسطينية" كحركة تسعى لإجبار العالم على الاعتراف بدولة فلسطين؛ توفى إدوارد سعيد فى عام 2003 عن عمر ناهز 67 عاماً بعد صراع مع السرطان. بعد ثمانى سنوات من وفاته يطل علينا إدوارد سعيد مرة أخرى ليؤكد أن الأفكار لا تموت، وأن الأهداف النبيلة تعيش فى القلب والوجدان، فرسمه شباب تونس الملهمة يبتسم فى وجوههم يمنحهم التفاؤل يحيهم صباحاً، ويذكرهم بضرورة الخروج من أسر الرؤى الاستشراقية والأطر والقوالب التى وضعنا فيها الآخر، وصدقها الحكام والتابعون.