جامعة الإسكندرية تبدأ غدًا استقبال طلاب المرحلة الأولى للتنسيق بالثانوية العامة    انقطاع الكهرباء 25 ساعة متواصلة يثير غضب أهالي زراعة الزقازيق    الحكومة الهولندية تتخذ إجراءات جديدة ضد إسرائيل بسبب قطاع غزة    غدًا.. منتخب الناشئين للكرة الطائرة يواجه بولندا في بطولة العالم بأوزبكستان    أخبار الحوادث اليوم.. مصرع طبيبين في حادث تصادم على الطريق الدائرى بالبساتين.. السجن 5 سنوات ل نجل عبد المنعم أبو الفتوح في اتهامه بالانضمام إلى جماعة إرهابية..    زياد الرحباني، موسيقار أحبّ دلال كرم وتغنّى بالوجع والفراق    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    «ما تراه ليس كما يبدو».. شيري عادل تستعد لتصوير حكاية "ديجافو"    اعتداء على طبيب بمستشفى أبو حماد بالشرقية، والصحة تتوعد الجناة    محمد عبد السميع يتعرض لإصابة قوية فى ودية الإسماعيلى وزد    مصطفى: مؤتمر حل الدولتين يحمل وعدا لشعب فلسطين بانتهاء الظلم    الداخلية: لا توجد تجمعات بالمحافظات والإخوان وراء هذه الشائعات    رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات: 424 مرشحًا فرديًا و200 بنظام القوائم ل انتخابات مجلس الشيوخ    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أزهري: الابتلاء أول علامات محبة الله لعبده    توقعات: دوري ملتهب وحار جدًا!    وزارة الصحة: حصول مصر على التصنيف الذهبي للقضاء على فيروس سي نجاح ل100 مليون صحة    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    بيراميدز يعلن رسمياً التعاقد مع البرازيلي إيفرتون داسيلفا    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    ختام فعاليات قافلة جامعة المنصورة الشاملة "جسور الخير (22)" اليوم بشمال سيناء    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    موعد الصمت الدعائي لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    التحقيق في وفاة فتاة خلال عملية جراحية داخل مستشفى خاص    متحدث نقابة الموسيقيين يعلن موعد انتخابات التجديد النصفي    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    "13 سنة وانضم لهم فريق تاني".. الغندور يثير الجدل حول مباريات الأهلي في الإسماعيلية    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    "اوراسكوم كونستراكشون" تسعى إلى نقل أسهمها إلى سوق أبو ظبي والشطب من "ناسداك دبي"    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    بسبب لهو الأطفال.. حبس المتهم بإصابة جاره بجرح نافذ بأوسيم    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    محاكمة 8 متهمين بقضية "خلية الإقراض الأجنبي" اليوم    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حاجة تحرق الدم
نشر في اليوم السابع يوم 30 - 10 - 2008

يوم الجمعة تمر تسع سنوات على كارثة الرحلة رقم 990 لشركة مصر للطيران عقب إقلاعها فى طريق العودة من نيويورك، أتاحت لى قناة الجزيرة أيامها فرصة إجراء تحقيق جاد فى ملابسات ما حدث، بالدليل العلمى انتهى التحقيق إلى إثبات استحالة نظرية الانتحار التى كان بعض الأمريكيين يروجون لها، فى تلك الأثناء كان الإعلام المصرى لا حس ولا خبر، بينما كانت مصر للطيران تضرب للعالم مثالا حيا للبلاهة والعبط، لماذا حتى بعد مرور هذه السنوات كلها لم نتعلم من الدرس؟ لأننا لا نحترم أنفسنا.
كنت ضمن وفد صغير لقناة الجزيرة بين 900 إعلامى وجهت إليهم الدعوة للقاء الرئيس حسنى مبارك فى عيد الإعلاميين المصريين الذى أعقب الكارثة، حتى فى حضرة الرئيس وفى حضرة النظام المصرى كله أحسست بالعيون تتجه نحوى، بعضها فى تشكك، وأكثرها فى امتنان، وبعضها الآخر تجرأ على الاقتراب منى كى يقول لى: «ربنا يحميك»، هؤلاء جميعا من أصحاب السلطة الذين تسمح لهم مواقعهم بأن يفعلوا شيئا، فلماذا لا يفعلون؟.. تملكنى هذا الإحساس الساذج وأنا أقطع طريقى مهرولا بعد الحفل بساعات قليلة إلى مطار القاهرة كى ألحق بطائرة شركة الخطوط البريطانية العائدة إلى لندن، حاربت نفسى حتى استطعت مقاومة إغراءات المديح، لكننى لم أستطع بعد مقاومة إحساس بالقرف.
عندما وصلت إلى المطار «الجديد» حولونى إلى المطار «القديم»، قالوا لنا إن خللا فى الكمبيوتر فى مطار هيثرو لم يسمح لطائرة الخطوط البريطانية بالوصول أمس، ومن ثم فإن على الراغبين من ركابها أن يتحولوا إلى طائرة شركة مصر للطيران، تحولت معهم.
كانت الطائرة المصرية من طراز بووينغ 747 التى ينقسم الجزء الأمامى منها إلى قسمين: علوى وسفلى مخصصين لحملة البطاقات غالية الثمن من فئة رجال الأعمال وفئة الدرجة الأولى. وكان مقعدى، الذى حجزته لى قناة الجزيرة، فى الجزء العلوى وكان عن يمينى رجل أعمال سورى أنيق وعن يسارى وجه أوروبى بين دفتى كتاب، وكان سفير إحدى الدول العربية واقفا لا يزال مزمجرا على درج السلم المؤدى إلى القسم العلوى فى محاولة بدت فى البداية يائسة لتكوين رأى عام بين ركاب الدرجة الأولى. قال لنا أثناء صعودنا إن مصر للطيران ضحكت علينا فوضعت المسافرين جميعا على طائرة مقاعدها جميعا من فئة الدرجة العادية، بعدما اطمأن كل واحد إلى مقعده بدأ إحساس بعدم الارتياح يتسرب بين المسافرين، لكن العرب عادة لا يأخذون زمام المبادرة والإنجليز عادة لا يشتكون.
أكثر ما آلمنى، كونى مصريا، أن أحدا من موظفى مصر للطيران لم يهتم بوضعنا فى الصورة قبل الصعود إلى الطائرة، ولو كان حدث لما كان الناس سيهربون على أية حال؛ إذ لم يكن لدينا خيار آخر حتى جاءت مصر للطيران فى صورة «البطل المنقذ»، لم يأت ذلك فى تقديرى من باب الجشع واستغلال المواقف بقدر ما جاء من باب العبط والبلاهة فى إدارة الأمور، لكن المسافر لا يهتم على أية حال بالتفكير فى الأبواب والدوافع والأعذار، ما يهمه هو الحصول على نوعية الخدمة التى دفع ثمنها مقدما، فإن لم تتوفر فلا أقل من اعتذار وله هو حرية قبول الاعتذار أو رفضه.
حتى قبل موعد إقلاع الطائرة بخمس دقائق لم نحصل على اعتذار ولا اهتم أحد بشرح الموقف. العرب يتأففون وينظر كل واحد منهم إلى الآخر، والأجانب مدفونة رؤوسهم بين الكتب والجرائد والله أعلم بما يدور فى نفوسهم، لدى هذه النقطة وجدت نفسى واقفا فجأة فى وسط الممر أنادى بأعلى صوتى باللغة الإنجليزية على المضيفة: «أريد أن أتحدث الآن مع المسؤول عن هذه المهزلة». التفت الركاب جميعا فى شغف فيما هرولت المضيفة نحوى: «أرجوك أن تهدأ قليلا وتعود إلى مقعدك»، لكنها وقد اقتنعت بتصميمى على موقفى أخذت تحملق مليا فى وجهى ثم سألتنى فى احترام: «ألست أنت المذيع الذى قدم برنامجا عن سقوط الطائرة المصرية؟»، عندما أجبتها انعكس موقفها تماما وهمست فى أذنى: «أرجوك أن تتمسك بحقك وحقوقنا جميعا». بينما أصابتنى دهشة مفاجئة من طلبها هذا كانت هى تهرول وتعود بعد دقيقة بمن فهمت منه أنه مدير الخدمات الأرضية، طلب منى فى البداية أن يكون حديثنا باللغة العربية فرفضت وزاد ذلك من شعورى بالاشمئزاز لأننى أعرف أنه يعرف أن معظم ركاب الطائرة من الأجانب.
على استحياء بدأ يتكون رأى عام بين ركاب الطائرة دفع هذا المدير فى النهاية إلى تقديم اعتذار علنى وتكليف موظفيه بالمرور على الركاب واحدا واحدا للتوقيع على التذاكر وختمها بخاتم مصر للطيران بما معناه أن من حق حامل هذه البطاقة استرداد الفارق بين ثمن بطاقة الدرجة الأولى وثمن بطاقة الدرجة الاقتصادية من الجهة التى اشترى منها البطاقة.
«خذ من التل يختل»، مثل شعبى مصرى قفز إلى ذهنى وأنا أربط حزام المقعد حول خاصرتى فيما كانت الطائرة تتهادى على مدرج مطار القاهرة متأخرة عن الإقلاع حوالى خمس وثلاثين دقيقة عن الموعد المحدد، «التل» هنا يتجسد أمامى لا فى سمعة مصر للطيران وحسب بل فى سمعة مصر كلها والعرب جميعا. إننى، أنا العربى المصرى، لم أستطع فى موقف كهذا أن أجد فارقا كبيرا بين «مصر للطيران» من ناحية و»مصر« كلها من ناحية أخرى، فما بالك بالأجنبى؟ ما الذى يمكن أن يكون قد دار فى تلك اللحظات فى أذهان الأجانب الذين لا يزالون مثلنا يشاهدون ويسمعون ويقرؤون ما يضعه الأمريكيون أمامهم فى براعة من »حقائق« تتعلق بكارثة الرحلة 990 ويتابعون فى الوقت نفسه مثلنا موقفا مصريا هزيلا؟
بعد انتهائى من إنتاج هذا التحقيق صار ركوب الطائرة أكثر الكوابيس رعبا فى حياتى، لكننى مضطر إلى العيش معه بحكم ضرورات العمل، هكذا يلاحظ كل من يتصادف جلوسه إلى جوارى، خاصة أثناء عملية الإقلاع التى لا أكف فيها عن تلاوة القرآن مغمض العينين والتشبث بأطراف المقعد فى عصبية.
بعدما وصلت طائرتنا هذه إلى مرحلة الاستقرار جاءتنى المضيفة كى تقول لى إن قائد الطائرة يدعونى إلى كوب من الشاى داخل قمرة القيادة. «ابن ال .... البطوطى ده قتل 216 بنى آدم كده عينى عينك»، هكذا بادرنى مساعد قائد الطائرة الذى كان جالسا باستهتار ممددا رجليه بعرض قمرة القيادة وبين أصابعه سيجارة يتساقط ترابها الساخن خلف قفا قائد الطائرة فيما تختنق الغرفة الضيقة كلها بالدخان. وقبل أن أرد عليه قاطعنى: «أهلا بالأستاذ فودة، شاى ولا قهوة ولا تحب سحلب وطاولة؟».
المواطن العادى داخلى لم يصدق أذنيه ولا عينيه، لكن الصحفى داخلى تأقلم سريعا مع الموقف، بل إننى قبلت منه سيجارة ومددت رجلى مثله بعرض قمرة القيادة ودخلت معه فى «قافية» مصرية مثل أولاد ابن البلد:
◄ يعنى إنت رأيك إن البطوطى انتحر
لااااا، أنا ما قلتش كده. ما تفهمنيش غلط يا باشا، أنا قلت «ابن ال .... قتل 216».
◄ يعنى قتل الناس وهو عارف إنه هيموت معاهم؟
أيوه طبعا، عشان ياخد التأمين.
◄ يعنى لو قالولك تموّت نفسك دلوقتى وتاخد مليار جنيه، توافق؟
شوف يا بيه، أنا المخابرات بعتولى، قالولى «تشرب قهوة؟»، قلتلهم «مافيش مانع»، قالولى «إحنا سمعنا الكلام اللى إنت بتقوله»، قلتلهم «البطوطى كان نسوانجى وراجل لَبَش»، قالولى «القهوة عجبتك؟» (يعنى طريقك صحراوى يا باشا)، قلتهم «قهوتكم زى العسل»، ورحت واخد بعضى وماشى، قالولى «لو حد اتصل بيك قول إنك ما تعرفش حاجة»،
◄ طيب وإنت ليه بتقولّى دلوقتى؟
أصل سعادتك عملتلى برنامج عشان تثبت إن ابن ال... ما قتلش الناس الغلابة دول.
◄ إنت شفت البرنامج؟
لأ.
هذا هو ببساطة أهم «مصدر» اعتمدت عليه الاستخبارات الأمريكية فى حبك الخلفية الدرامية لتهيئة العقول لتقبل فكرة انتحار البطوطى، «مصدر» لا أجد فى قاموسى كلمة تصفه أقوى من كلمة «حشّاش»، هكذا يزيد ضميرى راحة تجاه ما استطعت الوصول إليه من تحليل فنى ينفى صلاحية نظرية الانتحار، وهكذا فى الوقت نفسه يزيد اشمئزازى لأن «مصر للطيران» لا تزال تستأمن على أرواحنا مثل هذا النوع من البشر، حاجة تحرق الدم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.