فى ثقافتنا الشعبية نردد أحيانا كلمات، دون أن نتوقف لنتساءل عن المعنى الحقيقى للكلمة، وهكذا ألفنا –مثلا- أن نسمع بعض العوام ينطق بهذه الكلمة «يا خراشى» تعبيرا عن الدهشة المصحوبة بالاستنكار، وكان الفضل لتلميذتى الأديبة «أمينة التيتون» فى التنقيب عن أصل الكلمة، فإذا بما عثرت عليه يلتقى تماما مع قضية شغلت فكرى طويلا، وأصبحت فى الوقت الحالى أشد إلحاحا بحكم أجواء الثورة التى تفرض تغييرا فى الكثير من أمور حياتنا، وفى مقدمتها التعليم على وجه العموم والتعليم الأزهرى على وجه الخصوص، فما الحكاية؟ فقد ظل الأزهر منذ أن أُنشئ فى عهد الفاطميين، وخاصة على يد جوهر الصقلى، فى القرن العاشر الميلادى، مسجدا يقوم بوظيفتى التعليم والتعبد، حيث كان بسيطا فى مهامه، إلى أن تكاثر الطلاب، وتعددت المهام وتنوعت المسؤوليات، فرُؤى ضرورة أن يكون هناك مسؤول عنه «شيخا للأزهر»، وكان أول من تولى هذه المشيخة هو الإمام محمد الخراشى، شيخ المالكية، الذى انتقل إلى رحمة الله عام 1101هجرية الموافق عام 1690م. وكان الرجل من «أبو خراش»، مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة... كان حكام مصر فى هذه الفترة يمارسون ظلما وقهرا على جموع الناس، يستنزفون مواردهم، ويسدون أمامهم النوافذ حتى لا يستنشقوا نسائم حق من حقوق الإنسان الأولية البسيطة.. هنا كان المصريون ينظرون إلى «علماء» الأزهر، باعتبارهم قمة العلوم الدينية، يعرفون ربهم ويخشونه، وبالتالى لا يرضون السكوت على ظالم، وهذه نقطة فارقة لا ينتبه إليها كثيرون فى التفرقة بين ما حدث فى أوروبا تحت المظلة الدينية وما حدث فى مصر فى هذه القرون السوداء. ففى مصر وقف علماء الدين بجانب الجماهير، وإن لم يكن هذا فى كل الفترات، فصور الانحراف والسلبية، لا يخلو منها تجمع بشرى، وهكذا ظل الأزهر، عن طريق علمائه حصنا للمظلومين، فى مواجهة الحكام الطغاة، وفى كتابنا «دور الأزهر فى السياسة المصرية» الذى نشر فى سلسلة كتاب الهلال عام 1986، أمثلة عديدة تؤكد ذلك بالبرهان والدليل التاريخى. هنا، عندما كان المصريون يشعرون بظلم شديد، يتجهون إلى شيخ الأزهر الأول، صائحين: يا خراشى..!! طلبا لنصرة الأزهر على الظالمين، وصارت مثلا للاحتجاج!! وبلغ الأزهر قمة المسؤولية الوطنية السياسية، أثناء الحملة الفرنسية على مصر، أواخر القرن 18، وأوائل القرن 19، ثم دوره الحاسم فى تولية محمد على على مصر. ولإحساس محمد على بالقوة الشعبية للأزهر بدأ فى «تقليم» أظافره، بسلسلة من الأعمال أبرزها، البدء فى الاستيلاء على بعض أوقاف الأزهر، التى كانت تمثل «السند» الأساسى فى قوة الأزهر، بحكم استقلاله المالى. ثم أخذ هذا الاستقلال المالى يتلاشى تدريجيا إلى أن أصبح تمويل الأزهر من الدولة، ومن ثم كان هذا سندا لخضوعه لسلطتها، وضياع فرصة أن يستمر ضميرا للجماهير، فى مواجهة الحكام الطغاة، إلا فيما ندر، وبصور فردية موقفية. ولعل هذا ما يدفعنا اليوم إلى ضرورة البحث عن السبل التى تكفل للأزهر استقلاله المالى، بإعادة أوقافه إليه، بحيث يكون هذا سندا لاستقلاله على وجه العموم عن سلطة الدولة، ويكون اختيار شيخه بالانتخاب عن طريق مجمع البحوث الإسلامية، وفق ضوابط يُتفق عليها. إن الذين لم يدركوا الفروق الأساسية بين ما حدث فى أوروبا فى العصور الوسطى، وفى مصر، قد لا يعرفون أنه لا «رجال دين» فى الإسلام، وإنما هم «علماء دين»، وبالتالى فالسلطة هنا تكون سلطة «علم» وليست سلطة مؤسسة دينية، ومن هنا كان القاهرون من الحكام يخشون الأزهر كسلطة «علمية»، وليست سياسية، وبالتالى، فإن من أشكال اكتمال صورة «تثوير مصر» أن يعود للأزهر استقلاله، لتعود هيبته وسلطته فى أن يكون حارسا على حقوق الناس فى مواجهة سلطة المستبدين.