يمشى حنكش – كلب- فى الشارع يلهث، وقد أعياه التعب، وأنهكه العجز، أثقلته الحمول، وألهبت الأيام ظهره، وقرح المالكون له عنقه من كثرة ما أوثقوه بالسلاسل والحبال. يمشى حنكش وهو يجتر وراءه أحمالاً وأحمال، ويجتر ذهنه عوادى الدهر وقسوة الأيام، يتلفت يمنة ويسرة، لا يدرى أين يذهب؟ ولا يدرى فى أى كنف يحتمى؟ فقد اعتاد أن يعيش فى كنف سيد، وآثر ذلك على أن يعيش بذاته ولذاته. يرى الكثيرون ولكنهم لا يصلحون أن يعيش فى كنفهم، يقابله كلب يمشى مختلاً يهز زيله وينبح بقسوة ليرعب هؤلاء الأطفال الذين يحاولون أن يلفوا الطوق حول رقبته، ويرى كلباً آخر يمشى مع سيده الممسك بسلسلة حديدية تنتهى بطوق ملتف حول عنقه. ينظر إلى هذا الكلب النابح ليرعب من يحاولون لف الطوق حول رقبته.. ثم ينظر إلى نفسه فيرى أنه لا يمكنه أن يعيش كذلك مثله.. فهو قد خلق ليعيش فى كنف سيده.. وكلما فارقه سيد اشتاق إليه، فالكلاب بطبعها تحب أسيادها مهما كانوا قساة عليها، فدائماً ما يحن إلى سجانه، ودائماً ما يرغب فى معذبه. ينظر إلى الكلب الآخر المربوط إلى يد سيده فيغبطه على حظه بهذا السيد.. يحرك رقبته فيحس فيها بشىء غريب، نعم لقد عرف مصدر هذا الإحساس.. إن سببه هو غياب ذلك الطوق عن عنقه.. فقد اعتاده حتى ألفه، بل إن إزالته عن عنقه سببت له آلاماً بها. يرى أمامه أسياداً بلا كلاب، يتحير فى اختياره بينهم، كما أنه لا يريد أن يختار، بل يريد أن ياتى السيد إليه فيربط الطوق حول رقبته وهو – حنكش - يتقبل ذلك فى خضوع، نظر إلى السادة مرة أخرى، أما أحدهم فيمسك فى يده عظمة يلوح له بها، وأما الآخر فيمسك فى يده عصا وفى اليد الأخرى طوق من تلك الأطواق التى تلف حول أعناق الكلاب، وآخر يغريه بكلبة حسناء، وذاك يمسك فى يده كيساً من أكياس طعام الكلاب المستورد. أخذ يتذكر تاريخه مع السادة، وتتابعهم عليه، إنه يتذكر أول ما يتذكر سيده الأول الذى ورث حنكش عن أبيه، عندما كانت أم حنكش ملك والده، كان حنكش يسكن فى كوخ قذر على أطراف قصر منيف، يمر بداخله عندما يتجول به سيده فى حديقة القصر أو بداخله، عندها يرى الحدائق الغناء والقصر بعمدانه الرخامية وأرضياته اللامعة، وتماثيله النحاسية، والحوائط عليها الساعات المرصعة بالذهب، يرى أكوابا وأباريق من الفضة. كان سيده وساداته يشيرون إليه بعنجهية وهم يجلسون فى الحديقة، فيأتى إليهم مهرولاً يقف تحت الطاولة التى يأكلون عليها، يلقون له بين كل حين وحين قطعة من اللحم أو الدهن تحت أقدامهم فينقض عليها ليأكلها شاكراً، واستمرت الأيام كذلك، أحياناً يلعب معه سيده فيضع له قطعة اللحم على قدمه فيأتى حنكش ليلتهمها. وظل الأمر كذلك حتى ذهب سيده ذات مرة إلى قصره الآخر من باب التغيير، فهجم على القصر مجموعة من الأشخاص، ونصبوا خياماً وعششاً فى الحديقة التى كانت غناء، وبنوا عشة أمام باب القصر حتلى ينغلق تماما ولا يتمكن سيده من العودة إليه، ثم أنزلوا باقى السادة من القصر وألقوا بهم فى الشارع أو أسكنوهم فى العشش والخيام، وسكنوا هم القصر مكانهم. " أذكر يومها عندما تركت القصر عانيت من التشرد، عشت حياة من الحرية لم أتحملها، فعدت إلى القصر صاغراً، أمسك بى سيدى الجديد، ووضع كمامة على فمى وأوثق أطرافى الأربع فى بعضها وألقى بى فى أحد الأكواخ، كنت آكل جلد الطيور وعظامها، أجلس مع سيدى مشدود الوثاق مكبل ومكمم الفم، حتى لا أنبح أو أفكر فى النباح أصلاً، فى الصباح أصحو على لسعات من كرباجه تلهب ظهرى، ثم يرسلنى لمطاردة أحد الكلاب التى أعرفها فى الشارع، كان يتركنى أرفل فى قيودى منهك متعب لا حول لى ولا قوة، حتى أن قطة تجرأت فى يوم ما وتغوطت على وجهى، تألمت كثيراً وبكيت وهنى وضعفى، تحينت الفرصة وهربت منه، ولكن سرعان ما عدت إليه بعد أن وجدته وحيداً مقهوراً، لازمته حتى موته، وبكيت عليه رغم ما فعله بى. ثم جاءنى سيد جديد من أصحابه أطعمنى طعام من أطعمة الكلاب المستوردة، لم يعذبنى ولم يجلدنى كسابقه، سعدت به وعددته سيداً لزمنا جميلاً، مكننى من الإمساك بالقط الذى تجرأ وتغوط على وجهى وكذلك فعلها بعدد من كلاب الشارع الذى أقطنه، وما إن هممت بالتهامه حتى وجدته يركلنى فى وجهى ويشد وثاقى دون داع، ثم كمم فمى كذلك، حتى كرهتنى كلاب الشارع لأنى لم آخذ لهم بثأرهم حينما كان بإمكانى ذلك، هربت من هذا السيد أيضاً، ولكن فى كل مرة أشتاق إلى الذل والهوان أشتاق للسمع والطاعة، أشتاق إلى تأدية الأوامر". عاد إلى القصر ليجد سيدا آخر، هذا السيد كان قد باع القصر وحديقته وحمام السباحة حتى العشش والخيام بيعت، بل إنه كان ينوى أن يبيع الكوخ الذى يعيش فيه حنكش، كان هذا السيد يربطه ويضربه ويجوعه، حتى ساء حاله وهزل جسده، وهرمت هيئته، ولكنه لم يفكر يوماً ما فى إغضاب سيده، لم يفكر يوماً فى عصيان أوامره . كان للخنوع عنده لذه وللسمع والطاعة عنده نشوة خاصة، يسبح بحمد أسياده، فيكفى أنهم يؤكلوه هم أحيانا يجوعوه ولكنهم لم يتركوه يموت جوعاً، فهم لا يريدون له الموت، لأنه إن مات حنكش فلن يجدوا من يسودوه، ولن يجدوا من يذلوه ويعذبوه، لن يجدوا من يشبعوا فيه رغباتهم فى التسلط والسادية، هم لم يختاروا حنكش لقوته رغم عظمتها، أو لشجاعته المكمونة، ولكنهم اختاروه، لأنهم لم يجدوا من يرضى بهم سادة إلا حنكش، إنه لو تركهم ما مات جوعاً ولكنه سيجد ما هو أهم من الأكل والشرب، سيجد الحرية التى لم يراها إلا كومضات خاطفة، سيمضى دون ربط طوق على رقبته ودون جلد أو تعذيب، ولكنه كلما ترك الطوق حن إليه وكلما كف الجلاد عن جلده التهب ظهره حتى صار الجلد علاجه وأصبح التجويع تسليته. يتتابع عليه السادة وهو باق وخالد، ولكنه لم يجد حتى الآن ما يستفزه للنباح وإظهار قوته وشجاعته. تنبه إلى السادة الذين يتقدموا نحوه لكى يظفر به أحدهم، ولكنه لم يتيقن وما زال لا يجزم بمن فيهم الأحق بطاعته.