استيقظ صابر مبكراً.. جلس يتناول إفطاره ويتصفح الجرائد اندهش وظن لوهلة أن البواب لم يحضر له الجرائد القومية كالمعتاد، عاد للصفحة الأولى زاد اندهاشه، مما يقرؤه الآن من نفس المحررين السابقين، مط شفتيه سخطاً ثم ارتدى ملابسه متوجها لعمله بمركز معلومات مجلس الوزراء بالقرب من ميدان التحرير، ترجل من السيارة الأجرة فقد كان الميدان مغلقا راعه تزايد الباعة الجائلين رغم سعادته بالشباب وبنجله الأكبر الذى شاركهم فى تنظيفه الأسبوع الماضى لا بأس هذا أمر بسيط للغاية انتبه على هتافات من الآف متجمعين أخذته الحماسة فهتف معهم بسقوط الحكومة، وظل يردد خلفهم أسماء الوزراء ويعقبها بكلمة باطل كان من بينها وزيرًا يكن له كل احترام وتقدير ولا يزال، فتوقف، أجبره تدافع المتظاهرين إلى الانتقال لنقطة آخرى فوجد نفسه مع مجموعة تهتف بعبارات يغلب عليها طابع دينى استحسنها فهى تذكره بمناسبات دينية عزيزة على نفسه، ولكن ما موضعها هنا من الإعراب قرر ألا يسمح لأحد بأن يأخذ عقله قطع الميدان متوجها إلى شارع القصر العينى، بينما كانت الأغانى الوطنية التى تنبعث من أجهزة التسجيل العالية تشجيه وتثير بداخله أحاسيس وطنية افتقدها منذ أن كان طالبا بالجامعة. فى مقر عمله لاحظ تجمع موظفى إدارته أمام الحاسب الآلى وكل منهم يملى تعليقا أو أكثر لزميلهم الجالس إليه وقف خلفهم يراقب ويتأمل وجدهم قد أنشئوا صفحة على موقع باسم فرسان مصر الشرفاء يتهمون فيها رؤساءهم بأبشع التهم، وكلما روج أحدهم شائعة تعالت ضحكاتهم واتسعت دهشته أكثر عما كانت عليه فى الصباح عندما لمح اسمه وما لحق به من إهانات وتطاول يعلم الله أنه برىء منها براءة الذئب من دم بن يعقوب. أحدث صوتا خفيفا ينبههم لوجوده لعلهم يتوقفون نظروا إليه فى برود وحياه بعضهم بإيمائه وآخرون نادوه باسمه مجردًا، رغم أنه يحمل درجة علمية رفيعة طلب منهم بحسم أن يلتفتوا لعملهم أجابوه فى نبرة لا تخلو من تحدى بأنهم مشغولون الآن، وسينضمون بعد قليل لزملائهم فى وقفة احتجاجية لزيادة رواتبهم وتثبيتهم حاول أن يقترح عليهم حلولا فأشاحوا بوجوههم طلب أن يكون ذلك فى غير مواعيد العمل وبصورة سلمية أجابوه بصمت مريب وابتسامة تحمل استنكارًا لما يقوله. جلس فى مكتبه بضع ساعات دون عمل حقيقى سوى تلقى شكاوى قال لنفسه معهم حق، فالفساد كان ضاربا بجذوره فى كل مكان وهى ثورة حقيقة ولابد أن نتحمل فقد قطعنا الشوط الأعظم.. هانت.. ارتاح قليلا لهذا التفسير وقبل أن ينصرف هاتف رئيس اللجنة المشكلة لبحث الشكاوى فأخبره رئيسها أنه بمنزله بعد أن أجبره المحتجون على التنحى عن رئاسة اللجنة وتقديمهم شكاوى ضد أعضائها!! غادر مكتبه بصعوبة من الباب الخلفى بعد أن حاصرت المئات المبنى ظناً منها أنه مكتب رئيس الوزراء عبثا حاول إقناعهم بأنه مركز المعلومات فلم يفلح. فى طريق عودته لمنزله مترجلا توقف مرتان ليلتقط صورة فوتوغرافية لزوجين وأطفالهما مع دبابة والآخرى عندما شاهد جمع غفير يحيط بضابط شرطة، وقد دخلوا معه فى نقاش حاد كاد أن يتطور إلى تشابك بالأيدى بسبب انسحاب الشرطة، وعبثا حاول الضابط أن يفهمهم أنه كان يعمل بإدارة الجوازات، وأنه مثلهم مستاء مما حدث من قيادته، إلا أن ملامح الخوف التى تسربت الى قسمات وجه الضابط حتى كستها تماما حالت دون إقتناعهم بصدق حديثه وانصرف، بينما كانت تترامى إلى مسامعه عبارات الإهانة والسخرية من ضابط الشرطة الذى بات بزيه الرسمى أشبه بنقطة سوداء وسط جموع المواطنين التى أحاطت به حتى حاصرته. فى المساء طلب منه نجله الصغير أن يقص عليه قصة مثلما اعتاد معاتباً إياه أنه منذ اندلاع الثورة توقف عن عادته بسبب اشتراكه فى اللجان الشعبية لحماية بيتهم فروى له قصة جحا عندما ركب الحمار مع ابنه فقالوا إنه قاسيا لم يرحم الحيوان الضعيف، فلما نزل وسار خلفه تاركا ابنه فوقه قالوا لم يفلح فى تربية ولده يبدو أنه ضعيف الشخصية فلما تبادلا المواقع قالوا ترك طفلا يسير وهو راكب فهو ليس رحيما بولده فلما حمل الحمار على كتفيه اعتبروه مجنونا!! لمح فى عينى طفلة نظرة تساؤل فشجعه بأخرى حانية لكى يسأل فباغته طفله فى براءة: من المخطئ جحا أم الناس؟ دلف إلى فراشه وهو يتمتم كلاهما مخطئ جحا والناس، ولكن لا حياة لمن تنادى.. بدأ النوم يداعب جفونه فاستسلم فى هدوء حتى أخرجه منه رنين الهاتف على الطرف الآخر كان جاره الذى خرج إلى المعاش قال له فى تعجل: "شاهد القناة الأولى فورًا.. فلان يهين فلاناً على الهواء، ومن المؤكد أن هناك كثيرا من الفضائح فى الطريق"...! أغلق السماعة وأغمض عينيه بقوة حتى بات لا يرى إلا سوادًا واستسلم للأرق هامسا بدعاء أن يلهم الله عقلاء مصر وحكمائها ما يعينهم على استقرارها.. اللهم آمين.