يسألونك عن ميدان التحرير ومن فيه الآن، لا تنزعج من الأسئلة فبعضهم يسأل لأنه لم يصدق بعد أن هناك فى مصر من هو قادر على الصمود، وبعضهم يسأل لأنه طالما اتهم الشباب المصرى بالخضوع والتفاهة، وبعضهم يسأل لأنه يبحث عن أى «خرم إبرة» لتشويه صورة أهل الميدان.. دعهم يسألون عن أهل الميدان ودع غيرهم يسعون للإجابة اجتهادا أو تلفيقا، وانتظر التاريخ لكى يخبرك فيما بعد عن حقيقة أهل الميدان من هم؟ وكيف خرجوا؟ وإلى أى شىء يستند إصرارهم؟، أما إذا كنت مستعجلا ولا تريد أن تكون للتاريخ وتحليلاته وتسجيلاته منتظرا، فدعنى أخبرك أنا بالتعريف الأصلى لسكان ميدان التحرير أو أغلب سكان الميدان إن شئنا الدقة وأصل ثورة يناير كما هو معلوم بالضرورة للعالم كله الآن.. أغلب سكان ميدان التحرير من أبناء هذا الجيل، الذين ولدوا والرئيس مبارك يحتفل بالذكرى الثالثة لتنصيبه رئيسا لجمهورية مصر العربية مطلقا الكثير من الوعود عن تطبيق القانون والحرية والديمقراطية والرخاء والنماء، ومشيرا على استحياء تتضاءل مساحته مع كل عام يمر وهو رئيس لمصر إلى أنه يفكر فى اعتزال المنصب والاكتفاء بفترة رئاسة واحدة قادمة.. وشاهده هذا الجيل وهو يخسف بوعود خطبه الأولى الأرض، فلا طبق القانون ولا ضرب بقوة على أيدى الفاسدين، ولا هو اكتفى بفترة الرئاسة القادمة، ذلك الوعد الذى كان يرد فى خجل بين سطور خطابات سنوات عصره الأولى.. بناء على ماسبق من وعود رئاسية لم تتحقق نشأ هذا الجيل وصورة الرئيس مبارك تطارده فى مكان وكل زمان.. فى مشوار الصباح إلى المدرسة يلتقون به فى ذلك الميدان الذى تزينه صورة الرئيس الشهيرة وهو يظهر فيها محتضنا أشياء صغيرة تكتشف حينما تقترب منها أنها الأهرامات والنيل والكبارى وبعض من أهل مصر.. كلهم صغار بجوار الرئيس، ثم يذهبون إلى المدرسة ويقفون لتحية العلم وتحية الرئيس أيضا بعد أن قرر ناظر المدرسة من تلقاء نفسه أن يعلو بصورة الرئيس بجوار العلم، ثم يدخلون للحصة الأولى ليجدوا الرئيس مراقبا لكل محاولاتهم الخاصة بالنوم هربا من المدرس الملول عبر تلك الصورة الرسمية الشابة التى تعلو سبورة كل فصل فيك يامصر، ثم يخرجون من المدرسة ويمرون بالصورة التى تعلو السبورة ثم التى تجاور العلم ثم تلك التى فى الميدان، ويدخلون إلى البيت لتفاجئهم تلك الصورة فى الصحيفة التى يتركها الآباء بعد أن يفرغوا منها فى الصباح، ثم يختتمون يومهم برؤية عابرة لصورة السيد الرئيس فى مدخل استاد القاهرة وقت إذاعة مباريات الأهلى والزمالك أو عن طريق عبور سريع أمام شاشة التلفزيون وقت عرض أى نشرة إخبارية.. لا تستخف بذلك التعريف العلمى لسكان ميدان التحرير وصانعى ثورة 25 يناير، فأنا من أبناء هذا الجيل الذى لم يعرف سوى الرئيس مبارك رئيسا ولم يعرف سوى هؤلاء الكبار مسؤولين، أنا من أبناء هذا الجيل الذين سقوه بالملعقة وفى كل كتاب دراسى أن الرئيس مبارك هو صاحب الضربة الجوية وأن الضربة الجوية هى مفتاح الحرية، فتربط أنت بالضرورة بين الجملتين لتصل فى النهاية إلى الملخص القائل بأن الرئيس مبارك هو صاحب نصر أكتوبر.. أنا من أبناء هذا الجيل الذين سعوا بجهد لإقناعه بتلك الفكرة، وسعوا بجهد أكبر لإقناعه بأن القدوة عبارة عن قائمة لا تخرج من ثلاثة أسماء (الرسول عليه الصلاة والسلام- الرئيس مبارك- باباك) يمكنك أن تسردها كلها إذا سألك أحدهم فى برنامج تليفزيونى أو فى مكان رسمى عام أو فى مسابقة مدرسية: مين قدوتك ومثلك الأعلى؟ ولأنك بالضرورة ستختار الإسم الأول فى أغلب الأحيان، عدلوا السؤال ليصبح مين قدوتك ومثلك الأعلى من الرموز التى مازالت على قيد الحياة؟ لتجد نفسك مضطرا لاختيار الإجابة الثانية فى ظل إشارات المدرس أو أبيك نفسه.. أنا من أبناء هذا الجيل الذى أثبت فشل نظريات الإقناع بالقهر والعافية بدليل أنه الآن على رأس القائمة التى ترفع شعار التغيير وتطالب بالإحلال والتجديد.. أنا من أبناء هذا الجيل الذى أثبت أن نظريات التعليم بالجبر وتحفيظ وجهات نظر ذات اتجاه واحد قد تصيب بعضنا بالتوهان والارتباك ولكنها لا تقتل داخل الكل الرغبة فى التغيير والتطور.. أنا من أبناء هذا الجيل الذى حطم سنوات طويلة من عمل وشقاء أولئك الذين يجاورون الرئيس.. أنا من هذا الجيل الذى لم تنجح معه 30 سنة من الزن المتواصل على الدماغ باسم الرئيس وإنجازاته وصوره فى الخضوع أمام رغبة بقائه للأبد.. أنا من أبناء هذا الجيل الذى لم تنجح كل مساحيق غسل الأدمغة فى إزالة بقع الشجاعة والحرية والتمرد من خلايا مخه وجنبات قلبه.. و يمكنك أن تعرف أسماء جيلنا نفر نفر إذا ذهبت إلى السجل المدنى، فنحن لا نخاف أو على الأقل أكثرنا لا يخافون بدليل وجودهم فى الشوارع داخل كل تظاهرة وفى صفوف كل مسيرة.. أنا فخور بصحبتكم يا أبناء العشرينات، فخور بالانتماء إلى تلك المرحلة العمرية، فخور بما أراه منكم على المنتديات والفيس بوك وفى الشوارع رغم كل الملاحظات ورغم كل الأخطاء.. فخور لأن التاريخ لم يذكر أبدا أن جيلا من البشر استطاع أن يتحمل لمدة 20 سنة وأكثر الطعن بحقن يومية بفيروس «نعم» على طول الخط، فكبر واشتد عوده وهو يقول «لا» دون أن يحصل على أى علاج مضاد!