عبارة يقولها الشاهد للمرة العشرين وقد بدأ يمل من الشهادة ويلعن حظه العاثر الذى جعله شاهداً، فمنذ أن وقعت عيناه على الحادث وهو يردد الشهادة كأن أحداً لا يصدقه، ومنذ وقع الحادث قبض على الشاهد كما المتهم وسيق معه إلى قسم الشرطة ليستمع الضابط إليه، ثم اقتيد إلى وكيل النيابة ليناقشه فى شهادته، وقد يستدعى مرات لإيضاح الشهادة أو استكمالها. ومع تكرار الشهادة وما أصاب الشاهد من إرهاق يتسرب إليها بعض التغيير، ثم يتطرق إليها تحوير لتفادى نظرة الشك فى أعين المحققين، ومع توالى الأسئلة وكثرة الاستدعاء يتولد لديه إحساس بأنه متهم فى شهادته، فيتخذ موقف المدافع ويقوده ذلك إلى التمسك بصورة معينة واختلاق ما يكمل هذه الصورة لشهادته، وأحياناً يلجأ الشاهد إلى الوقوف موقفاً سلبياً تضيع معه الحقيقة، ويظن أنه بذلك قد أصبح فى مأمن من التناقض أو ظهوره بمظهر الكاذب، فتتوارى الحقيقة وتهتز ثقته بشهادته ويقسم ألا يعود للشهادة أبدا.ً وتمضى المراحل الأولى للتحقيق ويخلى سبيل الشاهد ويخيل إليه أن الله قد تاب عليه، وأن الجميع قد صدقوه، ولكن الأمر لا ينتهى عند هذا الحد، بل تمضى شهور وإذا بطارق غريب يطرق باب الشاهد، يدعوه لأن يمثل أمام محكمة الجنايات للإدلاء بالشهادة! وتحمل الدعوة كل ما نص عليه القانون من تهديد ووعيد إذا تخلف عن الحضور أو حاول أن يعرقل سير العدالة، فيترك عمله وينطلق إلى قاعة المحكمة ليكون هناك قبل الساعة الثامنة صباحاً حسبما دون فى ورقة التكليف بالحضور، وتمضى ساعات طويلة وهو رهين الحراسة حتى لا يحمله الملل على الفرار! ثم يأتى دوره ليردد "والله العظيم أقول الحق"، ولو كان الشاهد يدرك قيمة هذا القسم والغرض الذى شرع من أجله لقال فى صدق: "حضرات المستشارين، لقد وقع الحادث منذ فترة طويلة ومن الصعب أن أتذكر التفاصيل، فأرجو أن أطلع عليها أو تكتفى المحكمة بالرجوع عليها"، ولكن قليلون يفعلون ذلك. وإذا ما كنا فى صعيد مصر وأدلى شاهد بهذه العبارة الصادقة المحترمة وكانت القضية المنظورة من قضايا القتل أو الثأر، لهلل الدفاع عن المتهم ونشد عليها أنشودة البراءة، أما إذا أدى الشهادة على وجهها السليم وكان لحظه العاثر يتذكر تفاصيل الواقعة فسوف يلقى الأمرين من محامى المتهم، ويومها سيقول الدفاع وهو يظهر غير ما يبطن: "ما هذه الذاكرة التى لا تنسى أبداً"، وسوف يقتنع القضاة بصدق الشاهد بينهم وبين أنفسهم وسيشفقون عليه، ولكن القانون العتيد والتقاليد والعرف أقوى من الشهود وصدقهم، وأقوى من القضاة واقتناعهم. ولسوف يحمل الشاهد حملاً على الإدلاء بشهادته، وستنهال عليه الأسئلة كالمطر طمعاً فى خطأ يستفيد منه محامى المتهم. هذا الواقع المرير لا ينبغى أن يقودنا إلى اليأس، فالشاهد مازال هو عصب التحقيق والأصل فى أدلة الاتهام، والشهادة انعكاس للواقع الذى يؤيده الدليل العلمى، وعلينا أن نتلمس فى صدق ووضوح الحلول المناسبة من أجل تشجيع المواطنين على الإدلاء بالشهادة، وأن نهيئ لهم من حسن المعاملة ما يحفظ كرامتهم بما يتناسب مع قدسية ما يقومون به من واجب. إننى أرى أن المشكلة تكمن فى أسلوب التحقيق الذى نتبعه والذى لم يستطع التطور العلمى والدراسات النفسية والفنية أن تحركه عن الصورة التى يتم بها منذ مئة عام. فأسلوب التحقيق الذى يقوم على المجادلة بدلاً من المحاورة بات أسلوبا باليا، وإذا ساغ هذا الأسلوب فى الماضى مع ما كانت عليه الحياة الاجتماعية والثقافية من بساطة، فقد أصبح اليوم فى حاجة إلى تطوير يتناسب مع معطيات العصر مع فن معاملة الشهود. إن علماء النفس وأساطين التحقيق الجنائى يصفون الشهادة بأنها حاصل عملية بالغة التعقيد تتفاعل فيها حواس الشاهد مع عواطفه وأعصابه وتفكيره، ويخطئ تماماً من يظن أن الشاهد هو مجرد آلة تصوير تنقل ما دار أمامها دون تفاعل أو إضافة. فإذا ما أردنا أن نأخذ من الشهادة جوهرها وأن تكون لها قيمتها فعلينا أن نسأل الشاهد مرة واحدة أمام جهة قضائية، ففى ذلك دليل الثقة به كإنسان وأيضا دليل ثقة فى أجهزة التحقيق التى تتوالى عليه، أو أن نعدل إجراءاتنا بما يكفل أن يسعى المحقق للشاهد طالبا معلوماته، فالمحقق مكلف بالتحقيق متفرغ له، بينما الشاهد بالدرجة الأولى متطوع وله من عمله ما يشغله، وذلك حتى لا تضيع الحقيقة من جراء شهادة مشوهة.. والله الموفق.