أنفاسها تسبق كلماتها.. تحيرنى النظرات التائهة بلا شاطئ تحرك أصابعها بعنف موسيقى كأنها تعزف مقطوعة صاخبة نشاز.. تقول بتوتر (رأيته يقتلها بيديه) ثم تبتلع ريقها فيصلنى صوت عبوره الحلق من كثرة تكرار الابتلاع. أشير إليها أن تجلس بدلا من عناء الوقوف وحالتها النفسية لا تسمح فربما تسقط مغشيا عليها بين لحظة وأخرى.. تشد الكرسى بتمهل لا يناسب عدم التركيز الذى تلبسها تجلس على طرف الكرسى حتى تكون قريبة من الباب فإحساسها بالخوف يدفعها لانتهاز الفرصة للفرار عند الخطر.. (والله يا بيه شفته أنا مش باكدب) وطوال ساعة كاملة حكت ميريت تفاصيل مقتل جارتها سمية على يد زوجها عمر!! كيف مزق جسدها إربا.. وفصل رأسها الجميل الذى طالما أطلت به عليها كل صباح. شهقت محملقة فى الفراغ كأنما تستحضر مشهد القتل تصفر بشرتها التى تميل إلى البياض وتتقلص عضلات وجهها وتزم شفتيها تمتص اللحم فيهما حتى تسيل الدماء منهما فأناولها منديل مشفقا على هستيريا الرعب التى أصابتها. كم كان المشهد مفزعا عليها.. فسمية صديقتها وجارتها فى الشقة المقابلة لها. سكتت عن الكلام وانفجر الصمت يستحوذ على لسانها وأحست أن فمها قد خيط منذ دهر. فسألتها وبعدين أين عمر الآن؟ ومتى وقعت الجريمة بالضبط؟ استمر سكوتها وغابت فى عالم آخر ليس له صلة بعالمنا.. فكررت سؤالى عليها فلم يطرف لها جفن. تأملت ملامحها الصافية ونظرة عينيها الطفولية الهادئة لكننى لمحت نظرات مختبئة غامضة لا تفسير لها وسط هذا الحشد من البراءة، لحظات وانطلق لسانها بالكلام كانت روايتها تشوبها الدقة لكننى استمررت فى الإنصات لها (سمية قتلت منذ شهر).. عمر لسه موجود فى الشقة!! وأقسمت أنها رأته كان يقطع قطعة لحم كبيرة ويشويها ربما تكون جزءا من جسد صديقتها.. (سمية). يرتعش جسدها النحيل ويزداد وجهها نحولا تسربت الدموع تتزاحم فى مقلتيها.. تسقط بلا إرادة منها فتنتفض عضلات وجنتيها وتنهار مغشيا عليها. تنقلها سيارة الإسعاف لأقرب مستشفى.. تساورنى هواجس صدق روايتها ويشغلنى وقع الحدث على مسامعى فعمر زوج سمية سبق أن جاءنى وحرر محضرا بتغيب زوجته وعندما عثرنا على جثة بمواصفات الزوجة الغائبة اتهمه أهلها بقتلها إلا أن الطب الشرعى كان الفيصل فى نفى الاتهام عليه.. واليوم تأتينى ميريت لتعيد ثمرة الشك فى قلبى مرة أخرى. هذه المرة مختلفة فهى ليست على خلاف مع عمر مثل أهل سمية ولن ترث صديقتها مثل زوجها. قررت أن أذهب بنفسى لشقة سمية فربما ينفرط السر المدفون مع سمية فهى حتى الآن فى نظر القانون وزوجها مختفية.. ومن وجهة نظر أهلها وميريت مقتولة.. والمتهم واحد!!!! استقبلنى زوج سمية وابتسامة ضامرة على شفتيه.. شحوب وجهه يقلق تفكيرى ويأخذنى تساؤل وحيد: أين سمية؟ فتشت فى كل جزء من الشقة.. حتى إننى كشفت أغطية الأوانى بالمطبخ.. فتحت الثلاجة قلبت فى أكياس الطعام فلم أجد ولا حتى إصبعا من أصابعها. لم أنس أن أفتش فى سلة المهملات.. كل شىء عادى.. بارد.. طبيعى لكننى لاحظت أن الشقة مرتبة كل هذا الترتيب ونظيفة كل هذه النظافة فى ظل غياب الزوجة وكأن عمر لا يأكل ولا حتى يشرب فنجانا من الشاى فى البيت. طوقته بالأسئلة عن سمية وعن ميريت فأجاب بلا تردد سمية حتى الآن لم تظهر كنت أعتقد أن سيادتك ستأتينى بالخبر اليقين. وانتابته دهشة أحسست أنها مفتعلة عندما ذكرت اسم ميريت.. وبادرنى بسؤال مفاجئ: كيف عرفت ميريت؟ فأجبته باقتضاب.. التحريات عزيزى عمر.. نحن نعمل فى صمت.. فنكس رأسه وعاد إلى شروده. ثم أفاق من غيبوبته قائلا وقد أشرقت ملامحه: يعنى فيه أمل تلاقوا زوجتى!! فهززت رأسى مؤكدا (إن شاء الله لا تقلق) وقبل أن أرحل لأتركه لأحزانه وأمله فى أن تدخل عليه سمية من غيبتها وترتمى بين أحضانه.. يسألنى سؤالا يقلب كل الأشياء داخلى رأسا على عقب (هى ميريت خرجت من المصحة إمتى؟).. أدركت أن هواجسى ورائحة الغموض التى شممتها بين كلمات ميريت كانت تطابق حالة الجنون التى عرفتها عندما ذهبت لاطلع على تقرير حالة ميريت فى المصحة العقلية. وأن كل ما رأته من ضرب الخيال.. انضممت بقلبى وعقلى وحواسى متضامنا مع عمر وكاد رأسى أن ينفجر وصرخت (فينك يا سمية؟؟!!). للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا