بما أن ناقل الكفر ليس بكافر، دعونى أنقل لكم بعض صفحات من التاريخ الأسود لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهى صفحات من مصادر ووثائق تم الكشف عنها مؤخراً، خاصة بعد الفشل المروع لهذه الوكالة فى الحرب الأمريكية على العراق، وقبلها الهجوم الذى تم على أمريكا فى الحادى عشر من سبتمبر عام 2001. لقد قرأت حرفياً آلاف الصفحات التى تضمنتها هذه الوثائق، وكذلك الكتب التى تضمنت اعترافات عملاء سابقين للوكالة، وأصبح من الواضح تماماً أن فشل هذه الوكالة لم يبدأ مع الحادى عشر من سبتمبر، بل إنه يمتد إلى ما قبل ذلك بكثير، ومن الطبيعى أننى ركزت على ما يخص الشرق الأوسط، وهو كثير، وبعضه مخزٍ ومحزن ودال. لقد حاولت السينما الأمريكية، أن تقدم لنا العميل 007 الشهير ب"جيمس بوند" فى صورة الرجل الخارق الوسيم الذى يستلب لب النساء بنفس السهولة التى يهزم بها الأعداء، وقدمت لنا جهازاً للمخابرات لا يقهر ويمكنه التسلل إلى كل مكان بما فى ذلك حجرات نوم رؤساء الدول والحكومات، ولديه المقدرة على شراء كل شىء بما فى ذلك الذمة والشرف والعرض والكبرياء، لكن الحقيقة ليست على هذا القدر من البساطة، بل إن فيلماً حقيقياً عن الوكالة لابد أن يكون بطله رجلاً قبيحاً سادياً ذا وجه منفر لا يطاق. فى زيارة لوفد من الكونجرس إلى "لاوس" أثناء حرب فيتنام، قام رئيس محطة الوكالة هناك باصطحاب الوفد للترفيه عنه فى ملهى ليلى، وهناك وجدوا رجلاً أبيض ضخماً يرقد فى وسط الملهى عارياً تماماً، وهو يصرخ فى هذيان منادياً لعاهرة، وما أن وصلت إليه ورفعت تنورتها كى تجلس على رأسه، كان الوفد مذهولاً، لأن ذلك الرجل الفحل كان المرافق الذى أرسلته الوكالة فى الصباح كى يستقبلهم فى المطار ويصطحبهم فى جولاتهم الميدانية. وقد أصبح معروفاً اليوم أن أحد كبار مؤسسى الوكالة "فرانك ويزنر" (وهو والد السفير الذى يحمل نفس الاسم وخدم فى مصر فى أوائل الثمانينات)، ارتكب العديد من الجرائم الوحشية خلال رئاسته لقسم العمل السرى فى الوكالة، أصابته لوثة عقلية فى نهاية حياته ومات منتحراً بعد أن أطلق الرصاص على نفسه، ذلك الرجل كان يؤمن بأن العمل السرى يعنى الانتهاك المستمر لكل القواعد القانونية والأخلاقية. من أمثلة المعلومات التى كان يرسلها عملاء الوكالة أثناء الحرب الباردة، نجد أمثلة عجيبة، فمثلاً برقية تقول: "إن ضابطاً سوفييتياً سكيراً ذكر أن روسيا سوف تقوم بالضرب دون إنذار مسبق"، وبرقية أخرى: "أن قائد القوات السوفيتيية فى البلقان رفع نخباً ذكر فيه أن استنابول سوف تسقط"، وبرقية ثالثة: "أن ستالين يعد العدة لغزو تركيا ومحاصرة البحر الأسود والسيطرة على البحر الأبيض والشرق الأوسط" .. وقد كانت هذه التقارير فى أغلبها مفبركة أو ضعيفة المصدر، ومع ذلك فقد كان يمكن أن تؤدى إلى الحرب العالمية الثالثة فى الكثير من الحالات، ومنها مثلاً أن الرئيس إيزنهاور كان يفكر جاداً فى قصف الاتحاد السوفييتى بالقنابل النووية. تمتلئ تلك الوثائق بالعديد من الحالات التى قامت فيها الوكالة بشراء الانتخابات والسياسيين، وبحقائب الأموال التى كانت تتسلمها محطات الوكالة فى مختلف بقاع الأرض كى توزعها على الصحفيين ورجال الحكم، وهناك العديد من الحكام الذين وردت أسماؤهم فى جداول مرتبات المخابرات المركزية الأمريكية. تولى فرانك ويزنر مسئولية العمليات السرية فى الوكالة فى الأول من سبتمبر 1948، وكانت مهمته هى إعادة الاتحاد السوفييتى إلى حدوده السابقة قبل الحرب العالمية الثانية، وتحرير أوروبا من السيطرة الشيوعية، وكان ويزنر يعمل بجهد شديد وفى سرية مطلقة لدرجة أنه كان يخفى أعماله عن مدير الوكالة، فقد شعر بأن مستقبل العالم الحر يقع على كاهله، وأنها مسئوليته وحده كى يفهم ويحلل ويقرر، وأثناء فترة رئاسته للعمليات السرية تزايد عدد العاملين فيها بشكل كبير، وحصلت على نصيب الأسد من ميزانية الوكالة، وأصبحت العمليات السرية أهم عمل تقوم به هذه الوكالة، وهى أعمال تركزت على التخطيط للانقلابات والتخريب والدعاية السوداء، فلم يكن السيد ويزنر يطيق عمليات التجسس والحصول على المعلومات، فما فائدة بذل الجهد فى الحصول على معلومات عن دولة ما، إذا كان من السهل قلب نظام الحكم فيها وزرع العملاء كى يحكموها. وفى البداية وضع ويزنر خطط العمليات لمدة الخمس سنوات التالية، ومن ضمنها حرب اقتصادية ضد الإتحاد السوفييتى من خلال تزوير النقد والعبث بالأسواق، وأنفق ملايين الدولارات فى مختلف بلاد العالم كى يؤثر على الحياة السياسية فيها، ومن ضمن أفكاره العجيبة أنه أراد تكوين جيش من اللاجئين الروس والألبانيين والأوكرانيين والبولنديين وغيرهم من أبناء أوروبا الشرقية، كى يقوم هذا الجيش باختراق الستار الحديدى، وكان فى تقديره أن هناك ما يقرب من مليون لاجئ من هذه المناطق، وفى النهاية لم يتوفر له سوى سبعة عشر فرداً فقط. ومن بين تلك الأفكار العجيبة، هو الإبقاء على خلايا نائمة داخل الاتحاد السوفييتى، كى يتم تفعيلها فى المراحل الأولى للحرب العالمية الثالثة لتقوم بأعمال التخريب وتعطيل تقدم الجيش الأحمر الرهيب فى اتجاه أوروبا الغربية، وفى هذا الصدد كان التوجه هو تخزين كميات هائلة من الذخائر والأسلحة بشكل سرى فى أماكن مختلفة من أوروبا والشرق الأوسط، كى تستخدمها تلك الخلايا النائمة فى تدمير الجسور وحقول البترول العربية. إلا أن أهم ما فكر فيه ويزنر هو ما أطلق عليه "مشروع استهداف المثقفين"، وحمل اسماً أكثر لياقة فى دوائر الكونجرس: "الحرية الثقافية" Cultural Freedom، وتكلف فى العام الأول ما يقرب من بليون دولار (وذلك فى نهاية الأربعينات من القرن الماضى)، للإنفاق على الصحف وكذلك محطات الإذاعة الموجهة مثل راديو Free Europe والذى تشكل مجلس إدارته من إيزنهاور ورئيس مجلة تايم ولايف وفوريتشن، وغيرهم من الشخصيات العامة التى جندها ويزنر كى تمثل الواجهة للإدارة الحقيقية "الوكالة". ومنذ أن أصدر الكونجرس فى 27 مايو 1949 قانون الوكالة الذى تضمن صلاحيات واسعة إلى درجة أنه لا يحول دونها والقيام بأى شىء فى العالم باستثناء التجسس داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية (وهو ما تغير بعد ذلك)، وليس على الكونجرس سوى التصديق على المبالغ الهائلة التى يتم طلبها طالما أن لجنة لخدمات العسكرية الصغيرة قد أقرت ذلك، ومن المعروف أن نيكسون كانت له جملة شهيرة تقول: "كل ما كان سرياً يكون قانونياً". قام ويزنر بإسقاط ما يزيد على ألف عميل كورى بالمظلات داخل كوريا الشمالية عام 1952، إلا أن مدير محطة الوكالة فى كوريا الجنوبية "جون ليموند هارت" ذكر فيما بعد أن كل تقرير وصل من هؤلاء العملاء إما كان مفبركاً وإما كان خداعاً بواسطة المخابرات الشيوعية، ويتذكر أحد هذه التقارير بالذات والذى تضمن أن جميع القوات الصينية والكورية الشمالية قد استسلمت، واشتمل كذلك على معلومات رقمية عن عدد القوات وتوزيعها، وقد هللت القيادة العسكرية الأمريكية عند تلقيها هذا التقرير الهام، ليتبين لها بعد ذلك بثمن باهظ أن كل ما تضمنه لم يكن سوى فبركة وخداع، ومن المعروف فيما بعد أن أغلب هؤلاء المساكين من العملاء تم القبض عليهم وإعدامهم. ولقد أجادت الوكالة التى كانت تعمل بلا رقيب تقريباً فى أن تحول كل فشل إلى إنجاز، وبالتالى لم تتعلم أبداً من فشلها، وقد حاولت مثلاً أن تستخدم مسلمى الصين من قبيلة "هوى" التى تعيش فى شمال غرب الصين، وقامت بإسقاط أطنان من الأسلحة والذخائر وأجهزة الاتصال والعملاء، وتبين بعد ذلك أن كل ما أنفق على هذه الحرب الوهمية قد ذهب هباء، ولكن دفع العملاء حياتهم ثمناً لذلك دون أن يهب أحد لنجدتهم، وقد تكرر ذلك كثيراً فى أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط. ولقد كان "آلان دالس" أشهر مديرى الوكالة يؤمن بأن الشيوعية يمكن القضاء عليها بالعمل السرى وحده، وقد ذهبت الوكالة فى عهده إلى إنشاء الزنازين السرية حيث قامت بإنشاء واحد فى ألمانيا والثانى فى اليابان، أما الثالث فكان أكبرهم وتم إنشاؤه فى بنما، وبالتنسيق مع فرانك ويزنر تم تنفيذ مشروع أطلق عليه مشروع Artichoke والذى يهدف إلى السيطرة على الأشخاص باستخدام بعض العقاقير، وفى 15 مايو 1952 تسلم دالس وويزنر تقريراً عن هذا المشروع يوضح تجارب الوكالة فى استخدام الهيروين وأقراص النوم وغيرها من العقاقير، وبعض وسائل الاستجواب التى تضمن عدم مقدرة الشخص المستجوب على الكذب ، وبعد فترة أعتمد دالاس هذا المشروع تحت الاسم الكودى Ultra، وعندما تم تجربة أحد هذه العقاقير على أحد العاملين المدنيين الأمريكيين فى الجيش واسمه "فرانك أولسن" قام بالقفز من نافذة حجرته فى أحد فنادق نيويورك. ولعل "كيرميت روزفلت" من أشهر قيادات الوكالة المعروفين فى الشرق الأوسط، حيث أشرف على عملية قلب حكومة مصدق فى إيران وإعادة الشاه، ولقد كان هذا الرجل يؤمن بدوره بأن سياسة أمريكا الخارجية تدار من المخابرات، ومن المعلوم أن وزارة الخارجية الأمريكية كانت تدعم بشكل رسمى حكومة مصدق، والمثير أن مصدق نفسه كان يطلب من السفارة الأمريكية حمايته من التهديد الشيوعى، وهو ما جعل الرئيس إيزنهاور متردداً فى الموافقة على خطة قلب نظام الحكم، بل أنه ألقى خطاباً عرف بعد ذلك بعنوان "فرصة السلام" تضمن أن أى أمة لها الحق فى تشكيل حكومتها ونظامها الاقتصادى كما تشاء، وأنه إذا حاولت أى أمة أخرى إملاء ذلك على غيرها فأن ذلك يكون خطأ"، ولذلك أرسل رئيس محطة الوكالة فى طهران "روجر جويران" يسأل عن سبب محاولة أمريكا أن تتبع الأسلوب البريطانى الاستعمارى فى الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن ذلك سوف يؤثر بشكل مدمر على مصالح أمريكا فى الشرق الأوسط على المدى البعيد ، فما كان من مدير الوكالة آلان دالس، إلا أن استدعاه إلى واشنطن وانهى عمله كرئيس لمحطة طهران. ومن طرائف أسرار انقلاب إيران، أن الشاه كان خائفاً من تنفيذ خطة الانقلاب لدرجة أن الوكالة أرسلت إليه الجنرال نورمان شوارسكوف (والد جنرال بنفس الاسم قاد العملية العسكرية بعد ذلك لتحرير الكويت من الغزو العراقى)، ولأن الشاه كان يخشى أن القصر به سماعات للتنصت عليه فقد صحب الجنرال إلى ركن بعيد فى صالة الاحتفالات بالقصر وهمس فى أذنه أنه لن يشارك فى الانقلاب، وبالفعل فر الشاه إلى منتجعه على بحر قزوين، وهو ما أغضب كيرميت روزفلت فأرسل خلفه بوثيقة كى يوقع عليها تتضمن قراراً إمبراطورياً بإعفاء مصدق من منصبه وتعيين الجنرال زاهيدى محله، وفى نفس الوقت كان عملاء روزفلت ينشرون فى الصحف أن مصدق شيوعى، وأنه يهودى، بينما أرسلت الوكالة بعض الفتوات والبلطجية كى يتظاهروا بأنهم أعضاء حزب تودة الشيوعى للاعتداء على الملالى والمساجد، إلا أن السفير الأمريكى فى طهران "بورتون بيرى" أرسل برقية عاجلة يقول فيها أن الشاه قد غادر البلاد وأنه حالياً فى بغداد مرعوباً، فسارع روزفلت بتكليف السفير بأن ينصح الشاه أن يذيع بياناً يقول فيه أنه ترك البلاد نتيجة للفوضى التى أثارها الشيوعيون فى البلاد، وهو ما فعله الشاه ولكنه طلب فى نفس الوقت من قائد طائرته أن يتأهب للطيران به إلى روما، وكادت الخطة أن تفشل تماماً ومرة أخرى سارع روزفلت بتكليف العملاء من الملالى الشيعة أن يعلنوا "الحرب المقدسة" ضد الشيوعيين، وتم تكثيف الأموال على العملاء كى تعم المظاهرات كل مكان، وانتشرت الهتافات المأجورة وهى تهتف بحياة الشاه، ومن بين هؤلاء تواجدت قياداتان دينيتان بارزتان أحدهما كان آية الله أحمد كاشانى، أما الآخر فقد كان آية الله روح الله موسوى الخومينى. إن هذه الصفحات مليئة بأحداث بشعة فى جواتيمالا ونيكاراجوا وغيرها من بلاد أمريكا اللاتينية، وكذلك فى فييتنام وتايلاند ولاوس وغيرها من بلاد آسيا، وكان للشرق الأوسط نصيباً كبيراً من هذه الحرب القذرة، ورغم ذلك فقد أثبتت المخابرات الأمريكية فشلها الذريع فى أن تقوم بالمهمة الأساسية التى أنشئت من أجلها، وهى الحصول على المعلومات وتحليلها ، ومن أمثلة ذلك أنها فوجئت بحصول السوفييت على القنبلة النووية، وفوجئت بحرب 1973 فى الشرق الأوسط، وفوجئت بسقوط سور برلين، وفوجئت بأحداث كثيرة ليس آخرها الهجوم على مركز التجارة فى نيويورك ومبنى البنتاجون فى واشنطن، أو عدم وجود أسلحة دمار شامل فى العراق. لقد تغولت الوكالة فى إدارة السياسة الخارجية الأمريكية لعدة أحقاب، واستخدمت العمليات السرية كذراع وحيد لتنفيذ أهدافها، ومن المثير للدهشة أنه لا يزال هناك من يتساءلون فى أمريكا لماذا فشلت سياستنا الخارجية، أو لماذا يكرهنا العالم؟ عضو اتحاد الكتاب المصرى