إذا كان استقبال مأموريات الضرائب للذين يدفعون لها الأموال، يتم بطرق مهينة، فكيف يكون استقبال مصلحة التأمينات والمعاشات لمن يقبضون منها؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نسجل هنا أن مأمورية ضرائب الخليفة مثلاً، تقع فى الطابق الحادى عشر من عمارة العرايس فى شارع قصر العينى فى القاهرة، ومأمورية السيدة زينب تستأثر بالطوابق من السابع إلى العاشر فى العمارة نفسها، والأسانسير لا تزيد حمولته على أربعة أشخاص بالكاد، لذا يخصص للمديرين وكبار الموظفين، ومن يتوسم عامل الأسانسير أنه "باشا"، سيدفع البقشيش. السؤال التالى: كيف يتم نقل أكثر من 100 ألف ممول خلال فترة محددة، بأسانسيرات خربة ومستهلكة، للطوابق العليا، كى يقفوا فى طابور ذنب الدكتور يوسف بطرس غالى، صاغرين أمام الموظفين لتقديم الإقرارات الضريبية، تجاوباً مع الحملة الإعلانية التى تتخذ هيئة أمنا الغولة، أو "أم 44" فى قاموس الترهيب المصرى؟ السؤال ألقاه رجل بهيئة أنيقة، كان هابطا من الطابق الخامس فى بناية قديمة استأجرتها مصلحة الضرائب فى التوفيقية (القاهرة)، تستضيف نحو أربع مأموريات ضرائب فى القاهرة الجميلة. كانت علامات التأفف والسخط بادية على وجه الرجل، الذى حمل حقيبة تنم عن أنه ممول جاء لدفع ما عليه من ضرائب، وكان ينفخ ويستعيذ بالله بصوت مسموع. حملت السؤال وصعدت السلم المقبض والموحش، لأتبين أن العمارة بها أربعة طوابق لمصلحة الضرائب. وفى الطابق الرابع، ألقيت سؤال الممول الناقم على أذنى موظفة فى طريقها من مأمورية الأزبكية، إلى أعلى حيث مأمورية بولاق فى الطابق الخامس، فردت الموظفة (ذات النجوم الخمسة) بسخرية قائلة: "لو أنك جئت لدفع هذه الفلوس لتدخل جيوبنا، كنا قد استقبلناك بالورد والطبل البلدى". قالت الموظفة جملتها دون أن تدرك حجم الحجر الذى ألقته على رأسى، لكننى أيقنت قصدها الحقيقى من جملتها، وهو أنها تعمل لحساب الدولة وليس لحساب نفسها، وهنا تقع المأساة. نقلت القصة برمتها إلى محاسب قانونى يتعامل يومياً مع العديد من مأموريات الضرائب فى القاهرة، فقال الرجل: إن الدولة لم تعد فى نظر موظفيها كياناً يستحق العمل بإخلاص. ولعل الرجل قصد أيضاً أن العمل فى حد ذاته لم يصبح قيمة ولا متعة شخصية فى إنجاز مهمة مجتمعية، تترجم فى النهاية إلى إنتاج موجه للجماعة وليس للفرد، طبقاً للحديث النظرى، الذى يدرس فى باب تنمية الموارد البشرية، وتطبقه عملياً الدول التى حققت نمواً جديراً مثل اليابان، التى رفض موظفوها قانوناً يجعل الإجازة الأسبوعية يومين بدلاً من يوم واحد، واعتبار اليوم الثالث عملاً مدفوع الأجر لكنهم يتبرعون به لصالح الجمعيات الخيرية. السؤال هنا: إذا كان موظف وزارة المالية الذى يتقاضى أعلى الرواتب وأعلى الحوافز، وربما العمولات والأرباح، ينظر إلى أن ما يدخل خزينة الدولة لا يخصه، بمعنى أنه لا يعرف أن ما يدخل خزينة الدولة من ضرائب يوجه لدعم الكثير من مقومات الحياة الخاصة به وبأسرته وجميع الأسر فى الدولة، فكيف يكون حال التاجر العادى غير المثقف أو الواعى بهذه الأمور؟! المعلوم منه بالضرورة، أن الضرائب لا توجه لسد فواتير الإنفاق الحكومى فقط، لكن توجه أيضا لتأمين أجور المدرسين وأطباء الصحة وعمال الطرق والرى والصرف ودعم المياه والكهرباء، إضافة إلى صيانة الطرق ومشاريع البنية الأساسية فى الدولة، ورغيف الخبز والكتاب الجامعى والمواد الغذائية التموينية، وغيرها. بدا أن القصة كانت مثيرة، ومع ذلك علق رجل أعمال من الفئة المتوسطة على الوضع المزرى الذى يعمل فيه موظف الضرائب التابع لوزارة "جباية الفلوس" فى مصر، واستعان فى تعليقه بمنظر مأمورية ضرائب بولاق، حيث المقاعد البالية وزحام الملفات "المقرف"، ورائحة العرق التى تفوح من مكان مزدحم بالموظفين لتختلط بعبق الأوراق القديمة والحوائط المتربة، ودورات المياه القذرة، وصينية ساعى البوفيه التى اسود قاعها، وكولدير الماء العائد لأهل الكهف، ومروحة الهواء التى توجه ناحية أقدم موظف فى الغرفة لتعكس شعوره بالباشوية، وغيرها من الصور، التى لا توحى بتوافر أى عنصر من عناصر الانتماء للعمل، وهو ما أكده عدد من الممولين الذين تم استطلاع رأيهم فى هذه القضية. لعدم انتهاء وقت البرنامج دون طرح الحلول كما يحدث فى القنوات الفضائيات نوجه عدة أسئلة للسيد وزير المالية، أو للسيد أشرف العربى رئيس مصلحة الضرائب: ◄لماذا الإصرار على وضع مأموريات الضرائب العامة فى عمارات خربة، مستأجرة من الغير، مع اشتراط تعطيل الأسانسيرات الخاصة بها، أو قصر عملها على مدير المأمورية وضيوفه فقط؟ ◄لماذا يضطر الممولون التابعون مثلاً للمقطم والخليفة صعود 12 طابقاً فى عمارة العرايس شارع قصر العينى لتقديم إقراراتهم أو دفع ما عليهم للضرائب، مثل المجرمين أو المطلوبين أمام نيابة الخليفة فى مجمع محاكم الجلاء، حيث لا يستخدم الأسانسيرات سوى وكلاء النيابة، ولماذا يقتصر تخصيص كشك استقبال الممولين فى الطابق الأسفل لعمارة العرايس، على موسم تقديم الإقرارات فقط؟ ◄لماذا قصر التعامل الشيك مع الممولين، على مأموريات كبار الممولين، على الرغم من أن الحسنة القليلة من الصغار مع كثرتهم هى التى تمثل النسبة العظمى من عائد الربط المطلوب من مصلحة الضرائب، والذى بلغ أكثر من 30 مليار جنيه عام 2007، على سبيل المثال، وقد تجاوز المصريون هذا الربط العام الماضى بعشرة مليارات جنيه، والعهدة على عبد العظيم الطريفى، رئيس قطاع الشئون المالية والإدارية فى مصلحة الضرائب؟ ◄لماذا تضع وزارة المالية فى اعتبارها أنه يكفى موظف الضرائب ما يتقاضاه من دخول مالية عالية، ليثبت ولاءه للعمل، ولا حاجة لأن يعمل فى بيئة خالية من المنغصات حتى يجد نفسه مبتسماً من تلقاء نفسه، مقبلاً على العمل بنفس راضية، بدلاً من دفع أموال فى إقامة دورات لتعليم الموظف "كيف يبتسم فى وجه الممول"؟ إن الاهتمام بموظف الدولة يبدأ من تنظيف بيئة العمل المحيطة به، ولنأخذ مأموريات الضرائب على المبيعات مثالاً يحتذى به فى تطوير جميع المأموريات، حتى قبل الدمج بين مصلحتى الضرائب العامة والضرائب على المبيعات.