يطيب لى من حين لآخر أن أقلب فى أوراق قديمة، تشبه خموراً معتقة أحتفظ بها فى قبو أوراقى، وهى تصل– بلا مبالغة– إلى ملايين الصفحات، سواء تلك التى كتبها آخرون، أو تلك التى كتبتها بنفسى، وكم تدهشنى بعض هذه الأوراق القديمة بما تحمله أحياناً من عظات فات زمانها، ومن ذكريات لم تتبخر رائحتها، وفى كل الأحوال تنتابنى حالة غريبة من "النوستالجيا" تحملنى بين عبابها وتدفع بى مثل "تسونامى" زمنى بلا شاطئ أو أفق وأحياناً بلا حتى دليل.. ومن ذلك تلك الأوراق المتآكلة لبعض المجلات القديمة التى ما زلت أحتفظ بها فى مواجهة اعتراضات زوجتى التى لا تفهم لماذا أحتفظ بكل هذه "الكراكيب".. وعلى أى حال فإننى قد قرأت مؤخراً مقالاً فى مجلة قديمة، ولا أدرى لماذا أردت أن أنقل هذا المقال، فلقد استدعى تاريخاً وأحداثاً عشتها فى مطلع شبابى، وتأثرت بها كما تأثر بها وطنى، ولا تزال محفورة فى عقلى ووجدانى، وقد لا يجد القارئ فيها أهمية خاصة، ولكننى أظن أن بعض ما جاء فيها يحمل الكثير من المعانى التى يجب أن ننتبه لها، وربما لأجيال قادمة. فى 31 يناير 1972 نشرت مجلة تايم مقالاً تحت عنوان "ضباب فوق السويس"، وفيما يلى ترجمة حرفية له: لأول مرة منذ وراثته لجمال عبد الناصر كرئيس لمصر وزعيم للعالم العربى، تعرض أنور السادات فى الأسبوع الماضى لنقد شعبى هائل من مواطنيه. فى جامعة القاهرة الكبيرة ( بها 64 ألف طالب)، تجمع ما يزيد على 6 آلاف طالب غاضب وهم يلوحون بلافتات مكتوب عليها "يجب أن نحارب"، ويبدون تصميهم على مواصلة الاعتراض حتى يأتى لهم السادات كى يجيب على أسئلتهم حول السياسة الخارجية، وخاصة موضوع الحرب مع إسرائيل. وقد تسبب فى هذه الموجة الغاضبة ما حدث من تعديل وزارى فى مصر، بدا لهم وكأنه تفاد للموضوعات، كما أن الكلمة التى ألقاها السادات وغطتها وسائل الإعلام بكثافة والتى حاول فيها بغير نجاح أن يفسر عدم تنفيذ وعده المتكرر بأن عام 1971 سوف يكون "عام القرار".. قال السادات: "إن ما منع الحرب هو الحرب التى قامت بين الهند وباكستان، حيث إنها جذبت انتباه العالم وأصبحت معركة القوى العظمى، وهو ما أثر على معركتنا"، أى أن ذلك منعه من شن الحرب. واصل السادات بإجراء مقارنة مبالغ فيها بين حظه السىء وحظ سلفه جمال (الله يرحمه) فى عام 1967، حيث قال السادات إنه بعد شهر من حرب الستة أيام شوهدت فرقة مدرعة إسرائيلية تقترب من قناة السويس وكأنها محاولة لعبور القناة، فأمر ناصر القاذفات المصرية بأن تدمر هذه الدبابات.. ويقول السادات: "للأسف.. لم تستطع القاذفات أن ترصد أهدافها بسبب الضباب الذى غطى كل المنطقة.. لقد أفسد الضباب كل شىء". حتى أجهل المصريون وجد أنه من الصعب أن يهضم ذلك، فمن النادر، إن لم يكن من المستحيل، أن السويس يمكن أن يتكون فيها ضباب فى شهر يوليو.. وفى أوساط العاصمة أصبح حديث السادات التليفزيونى معروفاً باسم "خطبة الضباب"، وبعد ثلاثة أيام من إلقائها قام أستاذ فى جامعة عين شمس بالسخرية وهو يحاضر الطلبة حول "الضباب فوق مصر"، وقد خرج المئات من طلبة هذه الجامعة (التى يبلغ عدد طلابها 38 ألفاً) للتظاهر، وقبل أن يمضى وقت طويل انتقلت المظاهرات إلى جامعة القاهرة، حيث انتقد الطلبة سلبية الحكومة ورغبتها فى التعاقد مع شركات أمريكية للعمل فى مصر رغم أن أمريكا تسلم إسرائيل المزيد من طائرات الفانتوم. إن الطلبة وحدهم ليست لديهم القدرة على إسقاط الحكومة المصرية، وقد أجابهم السادات ساخراً لمطالبهم بالحرب بأن اقترح عليهم أن يلتحقوا بالجيش، إلا أن الرئيس كان مدركاً أيضاً أن المظاهرات ما هى إلا أعراض غضب شعبى بعد ما يقرب من خمسة أعوام من حالة اللا حرب واللا سلم، وأن العديد من المصريين الآخرين كانت لديهم نفس الشكوك. بطبيعة الحال، فإن حالة عدم الاستقرار لن يغيرها شىء وهمى مثل تعديل وزارى، فقد قام السادات قبل إلقاء خطابه ببضعة أيام بإبعاد مجموعة محترمة من الحرس القديم، مثل رئيس الوزراء محمود فوزى (71 عاماً)، الذى تولى منصباً فخرياً كنائب للرئيس، وكذلك وزير الخارجية محمود رياض (55 عاماً) الذى تمت تسميته مستشاراً للشئون الخارجية، وتكونت الوزارة الجديدة من مجموعة لامعة من التكنوقراط الشباب ليس من بينهم إلا قليلاً ممن يرتبطون بناصر، وليس لديهم قوة سياسية كافية. وقد ذكر أحد الإسرائيليين بعد تفحصه لقائمة الوزارة المصرية الجديدة "بعضهم يتبعون هذا والبعض الآخر يتبعون ذاك.. الشىء الوحيد الذى يجمع بينهم هو أنهم جميعاً يتبعون السادات". تقديرات وردية: هذا الوصف يناسب تماماً رئيس الوزراء الجديد عزيز صدقى (51 عاماً) الذى كان أول عضو بالحكومة يعلن ولاءه للسادات فى مايو الماضى بعد أن كشف الرئيس النقاب عن مؤامرة ضده، وهو خريج جامعة القاهرة وجامعة أوريجون وهارفارد، وقد تم ترقيته من وزير للصناعة، وهو المنصب الذى أشرف فيه على بداية مصنع حلوان للحديد والصلب وكذلك صناعة السيارات، والذى اعتاد غالباً على إعطاء صورة وردية للإنتاجية المصرية، وبتوليه منصب رئيس الوزراء فإنه سوف يركز على الشئون الداخلية بينما احتفظ السادات لنفسه بموضوعات الدفاع والسياسة الخارجية. بهذه الطريقة، فإن قرار السادات الأول سوف يكون حول ما يمكن عمله فى موضوع المفاوضات مع إسرائيل، سواء من خلال مبعوث الأممالمتحدة جونار يارنج أو من خلال محادثات الفندق التى اقترحتها أمريكا وتتضمن اتفاقا مرحليا لإعادة فتح قناة السويس. إن السادات متحير من دور أمريكا فى الشرق الأوسط، لكنه مع ذلك يرغب فى التفاوض، ولعل سبب استبعاد وزير الخارجية رياض وإحلال السفير السابق فى موسكو مراد غالب (50 عاماً) محله هو أن رياض لم يكن مرناً فيما يتعلق بقيمة المفاوضات المرحلية، وربما يفقد السادات التأييد الشعبى إذا تفاوض بدون التوصل إلى نتائج، ولكنه من ناحية أخرى إذا قاتل كما يطالب الطلبة فإنه سوف يضرب بلا شك، أما إذا لم يأخذ أياً من الخيارين السابقين فإنه سوف ينتقد بوصفه بلا فائدة، وذلك أيضاً سوف يكون خطيراً، وقد لاحظ المنتقدون فى الأسبوع الماضى أن صدقى الطموح، كرئيس للوزراء، سوف يعد الخلف المنتظر للسادات كرئيس. انتهى المقال ولا يزال بخاره يحيطنى، فلا زلت أذكر حيرة تلك الأيام، عذاب تلك الأيام، والرغبة الحارقة التى ملأتنى وملأت مئات الآلاف من شباب مصر آنذاك، كان مزيجاً من شعور مهين بالإحباط، يختلط بشعور بالثقة بالنفس والتحفز لإثبات الذات، كنا على جبهة القتال مجموعة أطفال تمتلئ عيونهم بالبراءة، نتأمل فى حزن وغضب إلى العلم ذى النجمة السداسية الزرقاء الذى يرفرف على الشاطئ الآخر لقناة السويس، ولا يزال نفس الحزن والغضب ينتابنى كلما تذكرت تلك الأوقات الضبابية. لقد تناثرت فى المقال السابق بعض الأسماء التى احتلت مواقع قيادية فى مصر خلال تلك الفترة.. أين هؤلاء الآن؟.. من المؤكد أنهم سطور فى تاريخ بلادى، قد نختلف أو نتفق حولها، ولكن ما أردت قوله هو إن الإنسان مهما علا شأنه سوف يزول بينما يبقى الوطن، يبقى الوطن سطوراً تتجدد كل لحظة، يبقى الوطن أكبر وأبقى وأهم من كل الأفراد.. لذلك أفكر فى كل لحظة، كيف سيقرأ أحفادنا صفحاتنا بعد عشرات السنين؟.. هل سيفخرون بنا أم سيشعرون بالرثاء، أم يرموننا باللعنة الأبدية؟. * عضو اتحاد الكتاب المصرى.