3 قروش ونصف كانت هى ثمن تذكرة الترسو فى "سينما مصر" فى دسوق لمشاهدة أفلام فريد شوقى الشهيرة، الأبطال، والعنيد وكلمة شرف، وأفلام "الأكشن والكاوبوى" الأمريكية التى بدأت تغزو السينما المصرية وتداعب خيال الأطفال والشباب الحالم والمتعطش للذهاب إلى أمريكا، حيث القوة والتقدم والحياة الرغدة الهنية، أو هكذا تصورنا واستسلمنا لواقع بدأ يتخلص من قيمه وثوابته ويقفز إلى واقع جديد يفرض قانونه القائم على القوة والدراع. طوال 5 سنوات منذ منتصف السبعينات وحتى نهايتها.. تمدد حلم الطفل فى اللهو والمرح والمتعة، والانفتاح على عوالم جديدة من الخيال المرئى وسط ظلام ساحر يبعث على إشباع المتعة الصغيرة والتى تشبثت بعالم السينما وخيالاته وأبطاله وأساطيره. إلى سينما مصر كان مشوار الطفل الصغير الصيفى لإشباع متعته وأحلامه مع أبطاله الأقوياء الشداد وبطلاته الجميلات الفاتنات أيضا..! تشكل وجدانه وتعلق بشاشة السينما و"شارع السيما"- هكذا كان يطلق على الشارع الكائن فيه مبنى السينما العتيق بعد أن اختفى اسمه الحقيقى، واستمر يواظب على مشواره الصيفى مرة كل يوم اثنين أسبوعيا حتى انتهى من مرحلة الدراسة الإعدادية، ولم يتوقف عنه رغم العقاب الأبوى فى حالة الوشاية من جار أو صديق للأب، الذى كان هو نفسه يحكى له عن ذهابه للسينما فى سنوات الأربعينات حتى بداية الخمسينات..! الأب رحمه الله كان أيضا من هواة الذهاب إلى "السيما" فى صباه وشاهد روائع الأربعينات حتى فيلم "ريا وسكينة" الشهير فى بدايات الخمسينات، وانتقلت الهواية إلى الابن أو بالأحرى الأبناء. كانت سينما مصر هى السينما الوحيدة فى المدينة والقرى المجاورة لها -39 قرية تتبع مركز دسوق- وفى الأعياد والمناسبات كانت متعة أبناء القرى عند مجيئهم للمدينة هى الذهاب للسينما ومشاهدة بقايا الإنتاج الحكومى وبدايات المنتجين المهمومين والمهتمين قبل ظهور سينما "هاتى بوسة يا بت" و"أديك فى الأرض تحفر". تبدلت الأيام ومرت سنوات طويلة، تغيرت معها ملامح السينما وتغير جمهورها ولم يتبق منها سوى طرازها المعمارى الأوروبى، حيث صممها مهندسون مصريون عند بنائها عام 1941 على الطراز الإيطالى الذى يشبه دور العرض فى ميلانو بالمسرح الداخلى و"البنوارات" المميزة والبلكون الممتد بمساحة الصالة التى تتسع لحوالى 650 مقعدا، وكان يرتادها عمدة المدينة فريد باشا زعلوك ومأمور المركز والأعيان قبل ثورة يوليو 52، وخصصت "بنوارات" خاصة لهم. ويردد الكبار من أبناء المدينة أن كوكب الشرق السيدة أم كلثوم عند زيارتها لدسوق فى نهاية الأربعينات فى مناسبة مولد العارف بالله إبراهيم الدسوقى غنت على مسرح سينما مصر، وفى هذه الزيارة سمعت " الست" المطرب الشاب وقتها ابن المدينة محمد رشدى وأعجبت بحنجرته، وقالت له يومها "روح.. يا بنى أنت هتبقى مطرب"، وطار من الفرح بهذه الشهادة التى غيرت مجرى حياته. كانت السينما فى البداية ملكا لأحد أثرياء مدينة طنطا بالشراكة مع أحد تجار دسوق وبعد وفاتهما اشتراها المنتج والمؤلف الإذاعى والسينمائى المعروف الراحل سمير عبد العظيم، واستمرت فى عرض الأفلام. وكان عبد العظيم يصطحب معه نجوم السينما إلى دسوق أمثال الفنان محمد عوض، وأحمد بدير ونجاح الموجى وممدوح موافى وغيرهم لجذب الجمهور إلى السينما. وفى 28 يناير عام 2001 توفى سمير عبد العظيم عقب تعرضه لنوبة قلبية، وتوقف نشاط السينما وسكنها الصمت وانطفأت أنوارها وأغلقت بروازيها الخارجية التى كانت تعرض فيها أكثر لقطات الأفلام إثارة لجذب الجمهور. مرت 10 سنوات كاملة وباع الورثة المبنى التراثى العتيق لأحد التجار الذى قام فجأة بهدم السينما وبناء مبنى ضخم شاهق على ارتفاع أكثر من 15 طابقا، واختفت السينما وأصبحت أثرا بعد عين ولم يعد لها وجود ولم يبحث عنها أحد فى سنوات الانفلات والفوضى وضياع هيبة الدولة ولم يتبق منها سوى اسم فقط للشارع حتى الآن ولم يجد أكثر من نصف مليون نسمة هم عدد سكان المدينة والقرى المجاورة متعة أخرى سوى المقاهى والتسكع فى الشوارع. كل ما سبق تذكرته وأنا أقرأ التحقيق الصحفى الرائع والمدهش بحق، للزميلين العباس السكرى وأسماء مأمون عن دور السينما المغلقة فى القاهرة والمحافظات وكيف تحولت إلى أماكن مهجورة بعد أن كانت موطنا للإبداع والفن. ولا أعرف من نحاسب على هذه الجريمة ومن صمت على إغلاق بل هدم دور العرض؟ وهل الدولة ووزير الثقافة لا يقدر قيمة وأهمية السينما فى مصر؟ ومغزى وجود أكبر عدد من دور العرض؟