كان طقسها السنوى، رحلتين.. قادمة من سوهاج.. متوقفة فى القاهرة.. ثم مستقرة فى السويس.. حيث مقابر الشهداء.. العمة "نبوية".. أم الشهيد.. التسمية التى حملتها منذ استشهد ابنها "جمال" فى حرب أكتوبر 1973.. ظلت حريصة على هذه الرحلة، رغم مشقتها.. حتى العامين الماضيين.. فقد تجاوزت الثمانين.. ولم يعد جسدها رهن أفكارها. شغلنى طويلا أمر تلك الرحلة، التى كانت جماعية.. تلتقى فيها أمهات الشهداء على أرض السويس.. مشاعر أم تزور قبر ابنها، وهى لا حتى تعرف إن كان مدفونا بهذا القبر.. شغلت كثيرا بتصور تلك المشاعر المجتمعة لما لا يقل عن خمسة أمهات تجتمعن فى ذات المكان.. ليرسلن بقلوبهن سلاما لأرواح أولئك الأبطال الراقدين فى نفس المكان.. سيل من المشاعر المبثوثة بلا حساب.. من سطح الأرض إلى باطنها.. 38 عاما مضت.. لو كان الشهيد "جمال" حيا الآن لأصبح فى عامه ال 68.. ولأصبح أبا للعديد من الأبناء، والأحفاد.. ولكانت لديه الكثير من الذكريات ليحكيها لأحفاده ولابنتى ولكل الصغار فى العائلة.. لأصبح ذاكرة حية تروى لهم جزءا مهما من تاريخ وطنى.. تترك حكاياته فى نفوسهم ما لم تستطع أن تفعله الأغنيات السنوية التى "يصنعها" المحترفون.. ولا كتب المدرسة بمناهجها العقيمة.. ولا بضع أفلام يعرضها التليفزيون المصرى والفضائيات على اختلافها.. كان "جمال" سيصبح فيلما وثائقيا من لحم ودم لا يمل جيل وراء جيل من الإصغاء له والتأثر به.. لأدركت كل الأجيال التى ولدت على أرض مصر بعدها قيمة كل حبة من رمال بوابة مصر الشمالية – سيناء – والتى للأسف رغم كل الجهد الذى بذل فيها.. مازال أغلبها رمال. زرت جنوبسيناء للمرة الأولى عام 2003.. لم أجد أبدا تفسيرا لكل الخواطر التى وقعت فى أسرها منذ بدأت رمالها تلوح فى الأفق.. كل الحكايات تواردت فرادى وجماعات متسارعة إلى رأسى.. صور كل الأشخاص الذين ارتبطوا بها أو ماتوا على أرضها.. كل الصور المتخيلة لجنود إسرائيليين يعبثون برمالها وهوائها وقيمتها.. دخلت الطور، ونويبع، وشرم الشيخ، ودهب، وطابا.. ووقفت داخل المنطقة التى تفصلنا عن أرض فلسطينالمحتلة.. رأيت مواطنى إسرائيل، يعبرون نقاط التفتيش – بلا تفتيش – دالفين إلى سيناء.. حاملين كل ما يحتاجونه حتى زجاجات المياة.. ينفقون فقط بضع دولارات.. خطر لى وقتها أن شباب بلادى أولى من هؤلاء المرتزقة المتبجحين.. الذين يأتون سيناء كأنها منتجعا تابعا لقواتهم.. رأيت هذا فى نظراتهم، وتحركاتهم، واستهتارهم بإجراءات الدخول.. سقطت عينى لا إراديا على أيديهم التى تحمل "المخالى"، أيديهم كانت مغموسة بدم الشهيد "جمال".. غادرت المكان يعترينى شعور طاغ بالغضب، مستفزة إلى أبعد الحدود.. مستنكرة بشكل غير مسبوق.. ثم زرتها مرات ومرات بعد ذلك.. لم يخبو أبدا شعورى بالغضب المخلوط بالحزن . الآن.. المشهد برمته يصيبنى بغصة.. أنفاق تحت أرض سيناء.. وشهداء فى عصر السلام.. اجتياح فوضوى لحدود مقدسة.. كانت دماء شهدائها ثمنا لهذه القدسية.. ولهؤلاء الذين خطوا أول خطوة وأصعب خطوة باتجاه الأرض، التى حصلنا عليها كاملة بعد كثير من التعثر فى مثل هذا اليوم – 25 إبريل – منذ 29 عاما.. للشهيد "جمال مرتجى" إبن عمتى.. ولكل شهداء الأرض الغالية.. أدعوكم لدقيقة تحية – وليس حداد – لأرواحهم الطاهرة، صلوا لهم أو اقرأوا الفاتحة.. أو حيوا أرواحهم بالطريقة التى تروق لكم. كاتبة صحفية بالاهرام .*