أحياناً تكون الكلمات مغموسة فى دموع القلب، يأتى التعبير منكسراً زاهداً، وتمتلئ الكلمات بالتجاعيد.. هذه الكلمات قد تبقى فى قبر الأعماق، وقد تسقط هامدة فوق السطور زهوراً ميتة.. ضمرت الذاكرة، تبخر الرفاق، تلوثت الأماكن.. فقط تتموج أدخنة السجائر بعد أن تخزن قطرانها فى الشرايين.. لم يبق سوى الدخان والقطران، وهمسات خافتة من وحى لم يعد يثير الإلهام.. لم تعد معدة القارئ تهضم بعد أن أصابها عسر هضم من كثرة ما ألقى فيها من غث كثير وسمين قليل، أصبحت القراءة من الأفعال المنقرضة التى ينبغى تأسيس جمعيات لحمايتها، ولذلك لم يعد أمام الكاتب الجاد وسيلة سوى أن يكتب لنفسه أو لحفنة من أصدقائه، وقد قيل فى ندوات كثيرة : "إننا نقرأ". ولا تنحصر المشكلة فى ندرة القراءة فقط، بل فى اضمحلال اللغة العربية فى الصحف والمجلات بل وفى العديد من الكتب، فلم يعد الكاتب يحفل أو يحتفل بمفرداته أو أساليب التعبير البلاغية، ولا أدرى كيف يستمتع بالكتابة ؟!، بينما يتفاخر أهلنا بأن الأبناء يجيدون اللغات الأجنبية، ومن المحزن أن تلتقى بطفل أو حتى شاب وتحاول أن تدير معه حواراً باللغة العربية، فتكتشف أنه عاجز عن التواصل، أو أنه يسمع ويجيب بلغة ركيكة نصفها أعجمى. تفرنجنا.. أو بالأحرى، أخذنا قشور سمكة الفرنجة الفاسدة، ثقافة الإستهلاك، أو "الوجبات الثقافية السريعة"، واكتفينا بالطفو فوق تيار الحضارة الإنسانية كشجيرات بلا جذور، بينما تفرغت النخب فى صراعات الديكة حول المناصب أو فروع المسائل، وانسحب المشهد الثقافى أو كاد، كى يترك فراغاً هائلاً ومخيفاً تتسلل منه الخرافة والأوهام. رحم الله زمن لوح الإردواز والكتاتيب التى أشبعناها سخرية وتجريحاً، حين كانت أجيال أجدادنا فى طفولتها تحفظ القرآن وألفية إبن مالك وبديع الشعر والنثر، فتشب مسلحة باللغة التى تعد الأساس الأول لبناء الشخصية القومية.. لن أضيف جديداً إذا ذكرت أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، وإنما تعد المخزون الحقيقى للقيم لأى جماعة بشرية، فإذا اضمحلت أو شحبت اهتز ذلك المخزون وتاهت الجماعة بحثاً عن هويتها. لقد كان الهم الأول للحركة الصهيونية هو إحياء اللغة العبرية، وكان الآباء المؤسسون للحركة يدركون أنها الوعاء الحافظ للهوية رغم تمزق اليهود وتناثرهم بين قوميات مختلفة، وأتصور أن هذه الإستراتيجية الثقافية لا تقل خطورة أو أهمية عن الإستراتيجية العسكرية لهذه الحركة التى نجحت فى الحالتين. من الطبيعى أن إحدى ضرائب التخلف هى أن الأمم المهزومة أو المستضعفة تصاب بعقدة نقص تجاه ثقافات الأمم المنتصرة القوية، وبدلاً من محاولة استدعاء القيم الأصيلة للثقافة الأصلية، وإعادة إنتاجها وتجديدها، فإنها تلك الأمم المهزومة تكتفى باستعارة المظهر الحضارى للأمم المنتصرة، بل وتحتقر خلال ذلك موروثها القيمى، وقد كانت تلك إشكالية أغلب حركات الإصلاح التى انبهرت ببريق الحضارة الغربية، فانقضت بشراسة على ميراثها القومى تهلهله وتدوسه بالأقدام بإعتباره سبباً للتخلف، وفى نفس الوقت تتعلق بتلابيب الغرب كى "تشفط" من ثقافاته كل ما يمكن ابتلاعه بغض النظر عن محتواه. لذلك كانت هناك ظاهرة الشيزوفرينيا الثقافية، حيث تجد "المثقف" الذى انفصم ما بين انبهار بالغرب يملأ عقله، وحنين للتراث يحتوى أحاسيسه.. ما بين "انحناء" لكل ما يفرزه الغرب، و"احتقار" يصل إلى جلد الذات لكل موروثه، ويسفر ذلك عن تلك "الإزدواجية المختلطة" التى تخاطب العقل العربى، وبعد ذلك نشكو من ضياع الهوية. ورغم أهمية العملية التعليمية فى إذكاء وإعلاء شأن اللغة العربية، فإن الإعلام بكافة وسائله يتحمل فى هذا العصر مسئولية أكبر، فقد صار هذا الإعلام وخاصة المرئى بمثابة الجليس الذى يصاحب الإنسان فى صحوه ومنامه، وبقدر ما يفرز هذا الجليس بقدر ما يمتص المتلقى، ومن المؤسف أن العديد من المنافذ الإعلامية تمتلئ بلغة ركيكة ناهيك عن الأخطاء العديدة، بل ووصل الأمر إلى سيادة اللغة الدارجة العامية بما استعارته من مصطلحات غريبة، وهكذا انقلبت الآية، فأصبحت النخب هى التى تتلقى لغة الشارع وتتولى الترويج لها، بعد أن تخلت عن واجبها فى الارتقاء بلغة الشارع والحفاظ على مخزون الأمة من القيم. وقد زاد الطين بله ذلك المصطلح العجيب الذى شاع استخدامه مؤخراً، وأعنى مصطلح "هات من الآخر".. لا يتذكر ثقاة المؤرخين بالضبط متى بدأ هذا الزمن الجديد، وكأنما هو زمن غافل الزمن وتسلل إلينا، أو قطار داهمنا فجأة بينما كنا نسترخى فوق قضبان التاريخ ونمص عيدان القصب، أو نيزك سقط فوق رؤوسنا فأحرق فيها مركز الذاكرة ومراكز الشعور والتأثر، أو أثر بقى من آثار العدوان لم تتم إزالته منذ 1967. وإذا سألتنى، لا أعرف، وربما لا أريد أن أعرف، فالمعرفة صارت هم الليل وذل النهار، وأى إضافة تعنى ذلاً وهماً جديداً وقد وصل العمر إلى أرذله، ولم يعد يحتمل رذالات أخرى، ولعل فى معنى الزمن الجديد ما يريح، فهو يشير بشكل ما إلى الاختزال وعدم اللف والدوران، فكم أرهقتنى دوائر الشيخ "إبن عربى" ودوخنى معه فى "الفتوحات المكية"، وكم أبيضت ليال قرأت فيها للطبرى والمقريزى وإبن إياس وأبو الفرج الأصفهانى وطه حسين والعقاد وغيرهم.. كيف لم يكتشف عبقرى هذه الصيغة السهلة المريحة :"هات من الآخر" ويريحنا ويريح غيرنا، هل كان ضرورياً أن أقرأ كل كتب طيب الذكر هنرى كيسنجر كى أكتشف أن بذور العنف فى السياسة الخارجية الأمريكية، لم تكن سوى تنويعات على لحن سياسات القوة ولعبة توازن القوى، هل كان من اللازم أن أقرأ كل سطر وجدته أمامى يتحدث عن تاريخ وتطور الحركة الصهيونية بما فى ذلك كتب الأدب والصحف العبرية كى أتوصل إلى أن إسرائيل دولة عنصرية توسعية؟، ما أضيع الليالى التى أمضيتها فى قراءة أسفار طويلة عن الحروب الصليبية، وكتابات المستشرقين، رغم أنها جميعاً فى التحليل الأخير لم تكن سوى عداء وكراهية للإسلام.. أقول إنه كان من الممكن أن يعيش الإنسان أكثر سعادة لو اختزل كل ذلك واعتنق نظرية: "هات من الآخر". إن المعرفة التى لا تكون زاداً للحياة بهدف تغييرها إلى الأفضل، هى معرفة عقيمة، تماماً مثل المقال الذى لا يتناسب مع الحال ولا يؤدى إلى مآل، فحين تسود فلسفة الفهلوة والمحسوبية والواسطة، فالمعرفة لن تكون إلا زاد عذاب. * عضو اتحاد الكتاب المصرى