«دمدم».. تجربة تسحبك فى عوالم غير محسوسة، ربما تجبرك على الغوص داخل عقلك لتتساءل معك وتجيب أنت عن أسئلتها التى لابد أن تكون تواردت إلى ذهنك، ولو حتى بمرور الكرام، فتجد نفسك فجأة واقفًا وسط الصحراء مع أبناء المسرحية وشخوصها، تهيم معهم، وتفكر بعقولهم، وربما تعيش أجواءهم الخشنة، وتستشعر بداخلك الذنب الذى طالما تعلق فى أعناق البشرية جمعاء بعد قتل قابيل لأخيه هابيل أول الزمان، أو حتى بعد خطيئة آدم وحواء وشيطانهما الغاوى. حاول الكاتب المسرحى حازم حسين الولوج إلى الواقع من خلال نسج علاقات معقدة لشخوص عكست فى روحها مكنونات تاريخية وثقافية وعقائدية، وترمى كذلك إلى الإسقاط السياسى فى الكثير من المواقف، حيث رسم لنا لوحة متكاملة قدر المستطاع عن «الإنسانية» ترجمت لنا قصة البشرية ومعاناتها مع نفسها النابعة من كينونتها هى. استخدم حازم فى مسرحيته الصادرة مؤخرًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ألوانًا رمزت للديانات السماوية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، ويظهر ذلك فى عبارات بعضها مأخوذ عن القرآن، على سبيل المثال «دمدم عليهم بذنبهم يا إبراهيم»، وبعضها يرمى للقصص النبوية مثل ذكره قصة سيدنا يوسف عليه السلام وخيانة إخوته والبئر، وحب أبيه الزائد له، واصطفائه عليهم. أما عن أدواته وفرشاته التى استخدمها فكان أجملها فى رأيى استخدام الرمزية فى الأسماء، فبعض الشخصيات حملت معها خلفية تاريخية بسبب وقع اسمها على الآذان كإبراهيم، أبى الأنبياء، وهو رب الأسرة وأبوهم هنا أيضًا، والراعى الذى تخيلته مثل سيدنا عيسى بن مريم، وكذلك يعقوب وقابيل ورمسيس. الجميل فى الأمر هو إمكانية استنباط أكثر من تأويل واحد للحالة الموجودة فى «دمدم»، فلكل قارئ مرجعيته وترجمته الخاصة التى تستخرج ما يكنه من تعابير، وربما قصدها الكاتب كأن تقوم رواية المسرحية من خلال مستويات تبدأ من التفسير البسيط عن حيوات وعلاقات بين أشخاص مُتخيلين إلى إمكانية عكس بعض شخصياتها إلى رموز تاريخية ثم دينية، ثم إلى تلميح ب«أحوال بلادنا العربية»، فينتقل حيّز «الحكى» من ضيق إلى أوسع، وعنه تنبت فكرة الشمولية ويظهر الاحتمال. وعلى سبيل المثال أرى أن «يعقوب» يظهر لنا فى شكل دول الاحتلال التى اغتصبت «بتول» أرضنا العربية، وقد يمثل ذلك «الإرهاب المُقنع» الذى صاغته لنا القوى العظمى. ورمسيس لا يسعنى القول إلا أن أراه ذلك الصنم الغبى الساكت عن الحق والضعيف حتى عن الفعل تمامًا، مثل واقعنا العربى وربما المصرى أيضًا «أنا فى خدمة النظام». تناثرت فى صفحات المسرحية معان كامنة فى عبارات كثيرة، وكانت بمثابة الزخارف التى أضفت مزيدًا من الجمال والخيال، ومنهم فكرة أن الماء أصبح دمًا، والدم صار الماء الذى ننهل منه، وكذلك فكرة التطهر بالموت، حيث كان الأموات يعيشون فى أجواء هادئة وسلام لم يستطع الأحياء التمتع به، وأيضًا فكرة الخيانة والغيرة اللتين تحومان حولنا منذ أول الزمان فى قصة يوسف وإخوته، والتهمة المعلقة فى عنق الذئب. ولكنى أتساءل: لماذا تلك الحالة الجنائزية حول الصراع الملحمى والأبدى بين الخير والشر؟، ففى نهاية رواية «حازم» لا ينتصر الخير ولا حتى الشر، بل يموت الجميع فتتساوى الرؤوس، كأن رب الخلق سبحانه وتعالى سكت عن الحق- حاشا لله- خاصة فى جملة «والموت تفنن فى صنع العدل». وحقيقة الأمر أعيب على كاتبها بعض الأمور التى استوقفتنى، ففى مسرحيته، وبعد أن ذهب إبراهيم معهم لأول مرة للعرّافات يظهر الصوت ليروى خيبة الأمل ليتحول فجأة شخص إبراهيم فى الرواية إلى «سيدنا إبراهيم» عليه السلام، ويبدأ الإسقاط على قصة إبراهيم وذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، وظهور «كبش الفداء» الذى يعكس فى المسرحية «فداء دم الصادق»، فيبين على نحو غريب استهانة وتهكم من فكرة «العرّافة» أو «الرؤيا». فى منتصف المسرحية تقريباً يجد القارئ نفسه فى المشهد الوحيد الذى اختار كاتبه أن يأخذنا فيه لزمن آخر بتقنية ال«فلاش باك» ليدور حوار رائع وشائك بين الأب إبراهيم وأبنائه حول قضية مصيرية ربما تمتد لأصل الخليقة، هى «الاختيار» فى الوجودية. لكننى فى الوقت نفسه أحببت المسرحية فى مجملها أو على الأقل أحببت تفسيرى لها، وبالأخص لبطلها «الصادق» الذى غاب عنا، وأعمانا عن رؤيته كل خسيس ودنىء حتى ضاع الحق وضاع العدل فى دنيا اقتات أهلها فيها من الغدر، وتصارع مُلاك أراضيها على أملاك ليست لهم، فصار شريان الدم يروى جذور شرنا الذى أضحى شجرة زقوم وارقة الأغصان توارى فى ظلها جثث موتانا وطلعها فى جهنم، حيث انتهاء الأقدار ولم يزل البئر فى مكانه ينضح دمًا.