"قوة سيبريا" هو الاسم الذى سيحمله خط نقل الغاز الروسى العملاق والذى يمتد بطول يتجاوز الثلاثة آلاف كيلو متر، وتكلفة تتخطى العشرين مليار دولار، ليمر من خلاله 38 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى سنويا ليصل بها إلى الصين لمدة ثلاثين عاما قادمة ، وذلك تنفيذا للعقد المبرم بين شركة "غازبروم" الروسية، وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية "سى أن بى سى"، والذى تصل قيمته إلى 400 مليار دولار. مشروع عملاق بكل ما تحمله الكلمة من معنى بين العملاقين الروسى والصينى، يدعم علاقات متينة بين بلدين دائما ما ينظر اليهم كطرف مقابل لحلف شمال الأطلسى "الناتو"، ووصف العلاقات بين روسياوالصين بالمتينة ليس من نبت هذا المشروع، بل من قبله، فالصين مثلا هى أكبر شريك تجارى مع روسيا، ووصل حجم التبادل التجارى بين البلدين فى العام الماضى 2013 إلى تسعين مليار دولار، ويخطط الروس والصينيون لرفع الرقم إلى 200 مليار دولار بعد عشرة أعوام. ويأتى هذا المشروع فى توقيت أكثر من مثالى بالنسبة للروس فى ظل الأزمة التى تشهدها علاقاتهم مع الأوروبيين وأمريكا على خلفية الأزمة الأوكرانية، فالأوروبيون يعتمدون بشكل كبير على الغاز الروسى، حيث تشير الأرقام إلى أن حصة الروس التصديرية من الغاز لأوروبا تصل إلى 30% من الاستيراد الأوروبى، وهى نسبة ضخمة بالفعل، ومع اندلاع الأزمة فى أوكرانيا، ظهر الغاز كسلاح فى يد الروس، وأراد الأوروبيين تجريد الروس منه كى لا يستخدمونه ضدهم، وبالفعل اقترحت "المفوضية الأوروبية" خطة لتقليل استيراد دول الاتحاد الأوروبى للطاقة وخصوصا من روسيا والاعتماد على مصادر الطاقة النووية والمتجددة وتكنولوجيا الغاز الصخرى، ولكن فى حال استغناء الأوروبيين عن الغاز الروسى، فلن يكونوا فقط قد جردوا الروس من هذا السلاح، بل أصابوها به، وطبقوا المثل القائل "على نفسها جنت براقش"، ولكن هذه الخطوة الروسية مع الصين جعلت الروس فى موقف أكثر قوة، فحتى لو قام الأوروبيون بتنفيذ خطة مفوضيتهم، فسيكون قد فات الأوان لأن الغاز المصدر للصين وحدها سيغطى جزءا مما تصدره روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبى ، وبالتالى تصبح روسيا فى مأمن ولو لبعض الوقت من تسديد سلاحها إلى قلبها، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد فستعيش أوروبا أوقاتا عصيبة للغاية حتى تقوم بتعويض الطاقة التى يقدمها لها الغاز الروسى وستقوم بإنفاق أموال لامتلاك مصادر مختلفة أو الحصول على موردين مختلفين ، بخلاف خسائر الشركات الاوروبية المستفيدة من تصدير روسيا للغاز إلى أوروبا ، وذلك كله إذا قرر الروس قطع إمداداتهم من الغاز عن الأوروبيين، ولا ننسى أن نضيف أن قطع روسيا لإمدادتها من الغاز إلى الاتحاد الأوروبى فى ظل الأزمة الاقتصادية التى يعيشها الاتحاد والتى وصلت إلى انكماش أصاب الاقتصاد الألمانى ذاته الشهر الأخير سيؤدى إلى نتائج كارثية بالنسبة للأوروبيين الذين ترتفع لديهم أصلا معدلات البطالة وتعانى عددا من حكومات الدول عجزا ضخما فى الميزانية. لكن الروس لن يخرجوا دون أذى، فصادرات روسيا من الطاقة إلى أوروبا تصل فى العام إلى 300 مليار يورو أى مايعادل 417 مليار دولار، أى أن روسيا تصدر لأوروبا فى عام ما ستصدره للصين فى 30 عاما، وهذا الرقم يمثل ما يقرب من 20% من الناتج المحلى الإجمالى لروسيا، وهذا الأمر سيوجة ضربة شديدة للغاية للروس، ربما تؤدى إلى أزمة اقتصادية روسية قاسية، فمن الصعب على أى دولة فى العالم أن تفقد هذه القيمة من إنتاجها وتتجنب التاثيرات السلبية الرهيبة المترتبة على ذلك الفقد، خصوصا إننا لو وضعنا مثال حى أمامنا ولنختار المانيا سنجد أن الوضع سيصبح أكثر راحة بالنسبة للأوروبيين، فألمانيا هى أقوى اقتصاد فى أوروبا، وهى دولة تحتاج للطاقة بشدة لاستمرار هذه القوة والريادة الاقتصادية، ولكن لن يمثل قطع الروس للغاز مشكلة عويصة بالنسبة للألمان، فالألمان كان لديهم 17 مفاعلا نوويا لإنتاج الطاقة، وفى إطار خطة ألمانية تم إغلاق 8 محطات واستبدال الطاقة المنتجة منها بموارد أخرى بعد كارثة مفاعل "فوكوشيما" اليابانى، ولكن الألمان لن يترددوا فى إعادتهم للخدمة قبل إيجاد مورد بديل لروسيا، وفى هذه الحالة فإن إنتاج هذه المفاعلات سيغطى حاجة ألمانيا من الطاقة بالكامل، وبهذا الشكل وبهذه الأرقام فإنى أعتقد أن الروس سيكونون هم المتضررون إذا قطعت أوروبا استيراد الغاز منهم، وسيكون أمامهم سنوات لكى يعوضوا هذه الأرقام الضخمة، وإن كان السؤال المنطقى الذى يجب طرحه هنا، هل هناك سوق يمكن للروس أن يصرفوا فيه منتجاتهم من الطاقة وهم أكبر مصدرى الغاز الطبيعى فى العالم أفضل من سوق الاتحاد الأوروبى؟ ولكن تبقى هذه الاتفاقية بإنشاء خط الغاز أيا كان حجم تأثيرها على المعادلة الكلية فى صالح روسيا، فهى وإن كانت أقل من حجم صادرات روسيا إلى أوروبا بمراحل فإنها تشكل جزء ولو يسيرا، والأهم من ذلك إنها قد تشكل خطوة روسية لتحريك الغاز الروسى جنوبا فى اتجاه دول مثل الصين ومنغوليا بدلا من الاتجاة غربا ناحية أوروبا، خصوصا لو وضعنا فى اعتبارنا أن خط الغاز الروسى هذا لن يوفر سوى 10% من احتياجات الصين المتوقعة من الغاز، أى أنه من الممكن أن يضاعف الروس الكميات التى سيسحبونها من أوروبا فى اتجاة الصين فى المستقبل، هذا هو خط الغاز، وهذه هى لعبة الطاقة بين روسيا وأوربا، لعبة سيخسر فيها الطرفان بلا جدال أن قاموا بإنهاء اللعب.