قبل سنوات عشر تقريبًا كان مألوفًا أن ترى رجلاً ذا لحية بيضاء وجلباب أبيض، يقف عند تقاطعات الشوارع فى وسط القاهرة، يحمل ميكروفونًا صغيرًا ويقول: "تبرعوا لبناء مسجد"، فإذا كنت من "أهل الخير" وأعطيته مبلغًا من المال، أعطاك كوبونًا يساوى المبلغ. كنت أعجب ساعتها من هؤلاء الرجال، وأحسب أنهم متطوعون، يجوبون الشوارع والطرقات تحت حر الصيف وبرد الشتاء من أجل أن تعمر الأرضَ مساجدُ الله.. إلى أن عرفت أنه يؤدى عملاً مقابل أجر، فهو يحصل على نسبة من الأموال التى يتبرع بها الناس. هذه الصورة انمحت تمامًا من الشارع المصرى، وحلت محلها بدائل أكثر عصرية، منها الإعلانات التليفزيونية التى تطالب المشاهد بالتبرع "ولو بجنيه" لبناء مستشفى مثلاً أو لإعالة أسرة يتيمة أو منكوبة.. أو.. أو.. وفى هذه الحالة لن تحصل على كوبون بالشكل القديم، لكن سيكون عليك أن تذهب إلى البنك لتودع مبلغ التبرع فى الحساب الذى يذاع كل عدة دقائق على كل القنوات الأرضية والفضائية، حتى لتعجب: أليست الأموال المنصرفة على الإعلانات تكفى لإقامة مستشفى آخر؟ فإذا قيض الله لك من يجيب عن سؤالك ستكتشف أن التليفزيون قد أخذ دور الرجل الملتح ذى الجلباب الأبيض، وأخذ نسبته بالتالى أيضًا. هذه المشروعات التى يقوم بها الناس الذين أصبحنا نطلق عليهم مصطلح "المجتمع المدنى" مشروعات جميلة فى ذاتها، فليس أجمل من أن يتبرع الناس لإقامة مسجد أو مستشفى.. إلخ، لكن السؤال سيلح عليك رغم إرادتك: وأين الحكومة؟ سيقولون: "هى الحكومة هتعمل كل حاجة لوحدها؟".. وعندهم كل الحق طبعًا، إذ إن الحكومات جميعًا لا تستغنى عن معاونة نشطاء المجتمع المدنى لمواجهة الأعباء الرهيبة التى تواجهها، خصوصًا إذا كانت مسئولة عن شعب قوامه ثمانين مليون يحتاجون إلى العمل والطعام والمواصلات والمستشفيات والمدارس والنوادى.. الخ هذه المطالب الضرورية. لكن هذا لا يلغى السؤال: أين الحكومة؟ إن الحكومات فى كل بلاد الدنيا تأخذ الضرائب من الناس لكى توفر لهم سبل حياة فيها الحد الأدنى من الكرامة، من حق المواطن الذى يدفع الضرائب أن تتوفر له أسباب الحياة العادية، من طرق ومواصلات وحماية أمنية وصحية.. الخ، وهذا غير متوفر فى بلدنا، وما يؤسف له بالفعل أن الذين يدفعون الضرائب من المنبع لا يتمتعون بأية مزايا من الدولة التى تجبى الضرائب، فى مقابل أن المتهربين هم الذين يتمتعون بكل شىء، وهى مفارقة عجيبة لا تحدث إلا فى بلد عجيب كبلدنا، فالفقراء يدفعون للدولة لكى تحسِّن حال الأغنياء الذين يأخذون أموال الدولة ويهربون إلى الخارج.. أية مفارقة يا ربى! بدليل أن شوارعهم نظيفة ومرصوفة وتتمتع بكل الخدمات، مقابل غيابها جميعًا عن شوارع الفقراء. هذا الخلل ناتج، بظنى، من أننا بلد يستهلك ولا ينتج، نطلب من الناس أن يتبرعوا لبناء مسجد، والناس تتبرع طبعًا استجابة لنداء الإيمان، لا تثريب عليهم، لكننا لم نطلب منهم أن يتبرعوا لبناء مصنع، ولم نضغط على الحكومة لتبنى المصانع من أموالنا التى ندفعها لها، بل إننا وقفنا نتفرج عليها وهى تفرط فى بعض المصانع التى بنيناها فى الستينيات بدعوى أنها تخسر، لم نسأل الحكومة لماذا تخسر المصانع؟ ولم نقل لها إن الحل ليس بالتفريط والبيع وإنما الإصلاح، لم نقل لها للحكومة يعنى إنها موجودة فى الأصل لتصلح ما أفسدته، بعضنا ربما فرح بهذا التفريط وصدق شعارات الخسارة والفساد الإدارى.. الخ، هذه الشعارات التى ربما كانت صحيحة فى بعض جوانبها، لكننا أبدًا لم نقل لأنفسنا ولا لأحد إن الخسارة ليست قدرًا، بل هى نتيجة فساد إدارى يمكن إصلاحه ببساطة! الغريب أننا نسأل أنفسنا الآن بلا توقف: لماذا تقدمت اليابان والهند والصين، بل وماليزيا وسنغافورة وكل البلاد التى بدأت نموها معنا أو حتى بعدنا، بينما توقفنا نحن فى مكاننا؟ بل وتراجعنا فى بعض المواقع؟ نسأل وكأننا لا نعرف أننا لا ننتج، بل نستهلك فقط، نستورد أشياءنا التافهة من الخارج ونعجز عن صناعتها، وبالتالى لا نوفر فرص عمل لأولادنا، وكأننا لا نعرف المثل الصينى الجميل: لا تعطنى سمكة، بل علمنى الصيد. * شاعر مصرى